ثقافة قلم وخواطر شجن 4-6

يا لجمالك يا هلال الوحيد في حسن سردك المتسربل بألق الحنين، ومواضيعك الثرية الغارفة من عين الحكمة والتبصر وتجارب السنين، بعض مقالاتك تتركنا دون إجابة وتثير فينا التساؤل عن ما وراء المغزى بل تشاكسنا في متواريات المعنى.

كم تأسرنا صورك الحسية المرتحلة لمرابع الصبا الباهرة بالجد واللعب، فكم لعبنا معًا ضمن شباب نادي الهدى لفريق كرة الطائرة، عشنا الأجواء التنافسية متعة مع الأندية الأخرى نتبادل المراكز ونحسب الأشواط نقاطًا، وبين صد وقفز ذقنا طعم النصر والخسارة، ربحنا من أوقات الرياضة لحظات ربح آنستنا فيها ببيت شعر أو قول مأثور وأعطيتنا معلومة عامة، لم تكن إجادة اللعب تعنيك بقدر ما يعنيك تنشيط الجسم والترويح عن النفس ساعة

جاد في اصطياد الوقت فتستثمر مشاوير الحصص التدريبية لمنطقة العقير حيث الوصول لميدان كرة القدم بمطالعة كتاب أو كراس مدرسة، تخرج من جيبك أوراقًا منسوخة بخط يدك لقصائد دعبل الخزاعي والكميت وأبي فراس الحمداني ترددها على أسماعنا عن ظهر قلب، لأنك سريع الحافظة، تترنم بالأبيات كما الخطباء فقد كنت لهم في مجلس أخيك الأكبر الخطيب ملا محمد معينًا ومساعدًا يدعونك بالوراق الصغير، ومن وقارهم نهيت النفس عن التسكع في الشوارع أو المقاهي، فمك معطر بالمطالعة من وحي تراث أهل البيت حيث مكتبة أخيك العامرة، فاكتسبت اللغة العربية فصاحة من كثرة التسجيلات بطلب من أخيك أبي ياسر ليسمعها وقتما يشاء، ومن محبته لك أخذك سفرًا للعراق عام 68م ليتلقى بعضًا من دروس الحوزة العلمية في النجف الأشرف، رحلت معه وأنت دون العاشرة، ومكثت معه 6 أشهر، وقتئذ خسرت نصف عام دراسي لكنك رجعت متّقد الذهن، وتقدمت للاختبار في الدور الثاني ونجحت في جميع المواد ذاهبًا للصف الثالث الابتدائي.

أبا ياسر هو من أدخلك للمدرسة ورعاك اهتمامًا ومتابعة وهو بمثابة الأب لك ولباقي أخوتك.. أشهد يا هلال بأنك كنت متفوقًا بين الحرف والرقم والقرطاس والقلم، نحييك تفاخرًا قبل 47 عامًا حين تمثلنا مع اثنين من مدرستنا (تاروت الابتدائية) فأنت الأبرز من بينهم خلال المسابقات الثقافية بين مدارس المنطقة، كم صفقنا لك إعجابًا حتى احمر الراح بالراح ألمًا من سعادة لسرعة إجاباتك التي أوصلتنا للتصفيات النهائية.

كم ذرفنا الدمع في ليلة ظلماء برحيل أخيك الشاب عبدالله، الذي خطفه الموت من جراء سلك كهربائي من (دينمة الماء)، حيث فارق الحياة على أعتاب باب منزلكم، في مشهد مروع، ناحت عليه حمامات الدار.

وكم أبكانا أخوك الأكبر (ملا محمد الوحيد – أبو ياسر) بصوته الجهوري المتفتق لوعة، بنعيه الشجي على مصائب أهل البيت، فقد عرفته المآتم لأكثر من 60 عامًا، خطيبًا مفوهًا، توالت على حضور مجلسه أجيال وأجيال، وعلى وقع طبقات حنجرته تعالت أصوات البكائين بنحيب وأنين، ارتوينا حزنًا ودموعًا، عبرات تلألأت على الخدود، طيب الله أنفاسه من خطيب، رغم بلوغه 75 عامًا فلم تزل مهجته حاضرة في حومة كربلاء إلى اليوم.

ويالها من أيام تلك التي جمعتني مع (الملا) حيث زاملني لمدة ثلاثة أعوام دراسية في رحاب مدرسة الإمام مسلم الابتدائية بسنابس في منتصف الثمانينيات، تقاسمنا معه أحاديث جمة، وعلى لسانه أسمعنا شعرًا فصيحًا وشعبيًا وهو الذي نبهني لمتابعة البرنامج الأدبي من إذاعة هنا لندن “قول على قول” للأديب والباحث (حسن الكرمي)،
وكم سرد لنا وقائع تاريخية عن معاناة الآباء والأجداد وأيضًا مفارقات بني الإنسان، وكم أذهلني بذاكرته المتعددة وهو كفيف البصر لكنه ذو بصيرة ثاقبة يعرف الأصوات ويتذكر الأسماء وأعمار الراحلين وسنة انقضاء آجالهم عبر اشتغال ابتدأ به منذ عام 72م وإلى اليوم حيث يأمر أحد جلاسه أو أصحاب بيته بتدوين أسماء رجال ونساء البلدة ممن فارقوا الحياة، أوراق تراكمت حتى أصبحت على شكل أجزاء، تحمل في طياتها سنة الميلاد والوفاة ونسب المتوفى، عرف عنه بـ”مؤرخ الوفيات”، ومن فوق المنابر وبين المجالس تهادى صوته ترحمًا على أرواح المؤمنين والمؤمنات بأحسن الدعاء، سلم بقضاء الله وقدره أثر رحيل زوجته قبل عدة أشهر فلم يكن تدوين اسمها ضمن الأنفس الميتة عنده سهلًا، حيث سجلها بحرقة ونعاها بحسرة.

عزيتكم يا آل الوحيد في مصابكم وصافحتك يا ملا محمد وقبضت على يدي بأخوة حنونة وطلبت مني شيئًا بسيطًا، لكني وبكل أسف نسيته ولم أوف بوعدي بكتابة الشاهد على قبر زوجتك الراحلة!، وحينما طلبت مني ذلك وقتئذ ذكرتني بأني كتبت الشاهد على قبر والدكم قبل أكثر من 30 عامًا، ألف رحمة على روح والدكم، ذاك الفلاح الصلب الذي قص علينا حكايات الأولين ونحن صغارًا في الدالية المجاورة لبيوت الديرة، رشيق القوام لا يهاب صعود النخيل العاليات المقاربة لأسطح منازلنا، كم تأسفت لعدم تدوين ما قص علينا من أمثال وحكايات وحكم، كنا صبية نتحلق حول مائدة أحاديثه الطيبة، يجذب انتباهنا في تأمل وتبصر، ننسى المكان ونسافر معه عبر دروب نخيل شمال الجزيرة، وأطرافها (منطقة الجبال) حيث العراء ومدافن الآثار، يلج البحر لجمع أسماك (لحضور)، ويضعها على (مراحل) دابته، يعود مبللًا بزبد وملح وعرق، رأى الجن يتحممن في (عين أم الفرسان)، سمع أنين آلهة عشتار، كلما غرس فسيلة بجوار قلعة تاروت، يعبر (جبلة العقير) جيئة وذهابًا ويرى الحيوانات النافقة، أو التي انقضت آجالها، في (مقبرة النار) ضوء يرى من بعد، لهب ودخان تأكل اللحم الميت وتبقي الجماجم والعظام ركائز مرعبة وسط الرماد.

قال لنا الوالد: إنهم لا يضرمون النار عند اشتداد الرياح أو هطول الأمطار، خبر المواسم بالأنجم وعبر الطرقات حافي القدمين يلامس تراب الأرض الندية ألفة وعمرًا، يمر بين (المعامير) فيحيونه بقهوة وتمر وشاي، ينام ملء جفونه مرتاح البال في أكواخ من عشيش في نخل (أم حرز) شمال شرق (مدرسة الغالي)، درع دروب الجزيرة بحثًا عن لقمة العيش في الليالي المعتمة والمقمرة، لم يشكُ الزمان لأن أهله كانوا له أخوانًا، ولأحاديثه متعة لا تقاوم، مازلت أتذكر وجهه الوقور وهو يشرب النارجيلة ويشرب القهوة تحت ظلال النخيل في أيام (القيض)، وقد بلغني أنه حمل العابرين والمسافرين من وإلى الجزيرة على متن (القاري) جيئة وذهابًا.

خاض بحر كيبوس في أوقات الجزر، وتحاشى نزلة (الخور) الخادعة وصم آذانه ولم يلتفت إلى صوت (أبو مغوي)، وبين (ماية القراح والثبر) غنى المواويل وشذا بالزهيريات، حمل العائدين سفرًا من ميناء دارين وتلقى (الصوغات) المجلوبة من أرض السواد وبلاد فارس، يا حجي حسن نسمات عليلة على روحك الطاهرة.


error: المحتوي محمي