بائعُ الحلوى

في كانونُ خذ نَفَسًا أيها العربي وامشِ مستقبلًا السماءَ بصدرك، أنتَ تولد في الصباحِ ورمحكَ في يمينكَ في المساء، رجليكَ في الركابِ وهامكَ فوق السحاب. من يمشي راميًا السماءَ ينشرح صدره لما يأتي منها، ومن قدره أن ينالها، لن يموتَ حتى يطالها:

وَنَحْنُ أُنَاسٌ، لا تَوَسُّطَ عِنْدَنَا،
لَنَا الصّدرُ، دُونَ العالَمينَ، أو القَبرُ
تَهُونُ عَلَيْنَا في المَعَالي نُفُوسُنَا،
ومنْ خطبَ الحسناءَ لمْ يغلها المهرُ
أعزُّ بني الدنيا، وأعلى ذوي العلا،
وَأكرَمُ مَن فَوقَ الترَابِ وَلا فَخْرُ

في محطةِ سفرٍ وقفتُ مع شابٍ أسمر، سيجارة وكوب قهوة سوداء وكعكة حارة مغطاة بالسكر الأبيض. الله! كم تمنيتُ أن تجتمعَ دونَ السيجارة، لكن مع زمان فات! كانت الكعكة المحلاة بالسكرِ والقهوة وجبةَ كل يومٍ صباحَ عام ١٩٨٦-١٩٨٧م، تتسابق كتل هواءِ الفجرِ الباردة كي تحيلها صقيعًا، إذا لم ألتهمها بسرعة.

نبش الصبيُ الأسمرُ في ذاكرتي السنةَ التي عملتُ فيها مع شركةِ شيفرون الأمريكية في لويزيانا وخليج المكسيك. كانت أيامًا مما يشبه الحريةَ الممزوجةَ بالقيد، أسبوعٌ في الخليجِ الهائجِ بين الأمواجِ والرياح العاتية، تأتينا أوامر إخلاء منصةِ الحفر، نغادر البحرَ ثم نعود وربما أضرت منصتنا الأعاصير، ثم أسبوعٌ فوق اليابسة أقطع فيه آلافَ الكيلومترات متسكعًا في شوارعِ ومدنِ الغربِ والوسطِ الأمريكي.

ليس منظر الحلوى الذي جال في ذاكرتي إلا رمزًا لما تلعبه فينا بعضُ المناظرِ من ذكرياتٍ مرت كأنما سواقي المناظر الصغيرة تجتمع أنهارًا من الذكرياتِ العابرة لقاراتِ السنين. ذكرتني أيضًا يوم كنت أستطيع أكلَ ما أريد دونَ أن أهتم بالعواقب. في أعمارنا نبدأُ بأكلِ كل شيءٍ في الصغر وننتهي بأن يأكلنَا كل شيء:
كم أكلةٍ خامرتْ حشا شرهٍ
فأخرجت روحَه من الجسدِ

لكن “حنانَيْكَ! بعضُ الشرّ أهوَن من بعضِ”، فليست الهمومُ التي تأكل العربي في البطن فقط، بل كيف يلحق بالركب؟ العربي الذي لم يكتفِ بقراءةِ التاريخِ ونقل المعرفة حينَ كان يصنع المعرفةَ والتاريخ معًا، صار يبتهج اليومَ بتبني المعرفةَ والعلوم لا أكثر! كان الطالب الأمريكي وغيره في الصفوفِ الأولى من الجامعةِ يتعلم منا حلَّ مسائلِ الجبرِ والتفاضلِ والتكامل. ويسألنا باستغراب: كيف عرفتَ أن تحلها وكأنها لا شيء؟ نقول له: لا بأسَ أنا العربي وأبي اخترعها قبل أن تُكتشف القارةُ الأمريكية بمئاتِ السنين وقبل أن تملأَ عقلَ أبي نظرياتُ التفويضِ حين فوضَ المعرفةَ لغيره ونام.

تستطيع الدول والمجتمعات والأفراد نسخَ المعارف بينها ولكن يُبدع من يبذر حقولَ المعرفةِ ويخلقهَا قبل أن يخلقها غيره. وزنُ عقولِ نساءِ العالمِ واحد، ووزن عقولِ رجالِ العالمِ واحد، لكن هممها تختلف بعددها. والشابُ العربي الحي لن تهزمَ همتهُ الأيامُ ولن تشيخَ بها، صفحاتُ التاريخِ مفتوحة يدخلها من يستطيع أن يكتبها، وإذا جاءَ يومٌ اكتشف فيه البشرُ أن العالمَ متناهي الحدود، فأنا كلي يقين أنه لن يأتيَ يومٌ يعرف فيه البشرُ حدودًا للعلمِ والمعرفة، فلا زمنَ يحد “وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا”.

انقضى صراعُ الحضاراتِ بين نحنُ كنا وأصبح باليًا، وحل محله صراعُ الحضاراتِ في أينَ سوف نكون؟ وهذا لن يتأتى إلا بخلقِ وصُنعِ المعارفِ والعلومِ من لا شيء وليس تدويرها ونسخها.


error: المحتوي محمي