ثقافة حياة

في القلوب النقية تأثر لكل ما يجري من أوجاع وأحزان تحيق بهم، فالمشاهد المأساوية تشعرنا بالتألم لهم فنهرع لإسعافهم وبلسمة جراحهم والتخفيف من همومهم، في صورة إنسانية يشاد بها كثيرًا.

فالتفاعل مع الأحداث المؤسفة والمؤلمة شعور وجداني يعبر فيه الواحد منا عما يجيش في نفسه من أحزان وهموم، فإذا ما نزلت مصيبة وشدة بمن حولنا تظهر علائم التأثر على وجوهنا ويعتصر القلب لما حل بهم، ولهذه المواساة والمشاركة تأثير إيجابي على علاقاتنا بالآخرين، لما لمسوه من محبة صادقة منا تخلو من طلب المصالح الضيقة، وليس هناك من مواقف توطد وشائج العلاقات وتنميها بما يعود بالمصلحة على المجتمع، فيشكل أفراده قوة تتضافر جهودهم في سبيل تقديم ما يسهم في رفعة وسمو أوطانهم كما هي المشاركة الوجدانية التفاعلية.

وقد يغرق البعض في بحر مشاعره الجياشة فتبقى حالة التأثر بذاك الحدث المؤلم مسيطرة على تفكيره، ويبان جليًا في تفاعلاته التالية في محيطه الأسري والاجتماعي، ولعله يحسب أنها حالة إيجابية تدل على طيبه واهتمامه بأحوال الآخرين!

التفاعل الوجداني مع مآسي الآخرين شيء وتحول الحزن إلى سمة دائمة تؤثر سلبًا على علاقاته شيء آخر، إذ يتحول الحزن الدائم إلى نظرة سوداوية تخلو من الإحساس بالحياة، فيضمحل الأمل والطموح من نفسه وفكره ومنطقه وحواره أثناء طرح أي فكرة معينة، ويقع في حالة تباين مع ما يحمله من ثقافة السلبية عندما يتخلى عن التطلع لتحقيق مكانة مرموقة تعبر عما يملك من قدرات إبداعية، وما بين فكر أناس يحملون ثقافة الحياة وتحقيق الذات وإحداث حيز وجود إبداعي مميز لشخصيته، إذ هناك من يعمل في وسط أكوام المحن والأزمات المتراكمة، مع إبراز الجانب الاجتماعي المتعاطف مع مشاكل الناس، فيخصص من وقته – ما هو حق عليه – ما يعمل به جاهدًا على معالجة نظرية وعملية ممكنة.

فالتفاعل الوجداني مع مآسي الآخرين لا يعني حملها معنا بنحو دائم، فالأحزان والهموم صدأ القلوب والفكر يتآكل مع مرور الأيام جوهر قوتنا واقتدارنا.

القدرة على التوقف وإعطاء كل حدث وموقف في حياتنا القدر الكافي له، دون استغراق وتلوين مشاعرنا به في تعاملنا المستقبلي مع أحد سمة إيجابية، فنعتاد ونتدرب على التفاعل مع المواقف؛ كل بحسبه ثم ننفس عن وجداننا، ونقبل على الأوقات القادمة متحملين مسؤولية اغتنامها بما يحقق النجاح والإتقان.

فبعد جلسة مواساة مع مشكلة أحدهم نقوم بعمل آخر مختلف عنه كالنزهة الأسرية أو المذاكرة أو المشاركة في مناسبة فرح، فما دمنا نتشبث بثقافة الحياة والعمل المثابر والطموح اللامتناهي فنحن بخير.

فنحن بهذه الهمة المقبلة على التحديات بتحمل المسؤولية نقدم نموذجًا للشخصية الإيجابية التي تجسد على أرض الواقع كل ما تعتنقه من تعاليم وتوجيهات حكيمة، فالحياة لا تتوقف عند حدث أو أشخاص بل هي ميدان أفرغ فيه لنا حيز لنمارس ما يجعلنا رقمًا مميزًا في عالم النجاح، وهذه الثقافة – ثقافة الحياة – خير مواساة ومشاركة وجدانية واجتماعية نقدمها لكل من يمر بمنعطف صعب في حياته، ولسان حالنا: قلوبنا معك وتتألم لما حدث لك، ولكننا ننتظر منك استيعاب الحدث والبدء في مواصلة مشوارك في الحياة، فلتشرق منك روح المثابرة مجددًا ولينبض في عروقك الطموح والأمل.

فالسفينة القوية تجابه الأمواج العالية دون أن تغرقها، والشجرة القوية تقاوم هجمات الرياح والعواصف وتتمايل على عزفها دون أن تنكسر، وكذلك هو من يواجه أحزانه وآلامه بهذه الروحية العالية.


error: المحتوي محمي