مع أننا نختلف مع هذا الرحالة الذي جاء من البحر المتوسط حتى دخل الجزيرة العربية واصلًا إلى بلاد شمر ثم القصيم ثم الرياض ومنها إلى الأحساء ثم القطيف، وفي القطيف أخذ يصف المكان ويعقد المقارنات والمقاربات التاريخية ويحلل في الأحداث، بل وحتى أصبح خبيرًا في الجنس البشري والسلالات وفي كل ما قاله نجده قد أدخل نفسه فيما لا يفقه وأخ يهرف بما لا يعرف، ومن الواضح أنه متأثر جدًا بالتاريخ القرمطي فأخذ منه مأخذه، غير أنني هنا لست في محل مناقشة ما كتبه في هذا الجانب، إنما أعجبني وصفه للقصر داخل قلعة القطيف وقد أعجب بلجريف بالفن المعماري، وهذا واضح من كلامه، فأحببت أن يكون القارئ الكريم، وخاصة من غير المتخصصين، أن يكون على اطلاع على ما كتبه هذا الرحالة قبل 145 سنة تقريبًا.
كما جاء عن بلجريف: يقع قصر الحاكم في الطرف الجنوبي الغربي من القلعة والقصر بصورته الحالية، وبخاصة أن بعضه منهار ومهدم وبعضه الآخر تم ترميمه ترميمًا بدائيًا في أزمان لاحقة لا يساعد على تعرف التفاصيل الدقيقة لمخططه الأساسي، فنحن نرى في البداية رواقًا مقنطرًا من الطراز المغربي محمول على سلسلة من الأعمدة الخفيفة عمقها ثلاثة عقود وطولها خمسة عقود، ومن فوق هذا الرواق المقنطر توجد عقود متصالبة مزينة بنقوش جصية وزخارف عربية انمحت الآن.
ومن ثم دخلنا إلى ذلك الذي كان في يوم ما رواقًا طويلًا مغطى، برغم أنه حاليًا ليس سوى مجرد حوائط ودعائم جانبية مع بروز كتف هنا وكتف هناك يوحي بعقد مهدم من فوقه، وبالقرب من هذا الكتف يوجد حوش داخلي توجد على جانبيه مجموعة من الشقق بحالة جيدة، وعلى أحد جانبي هذا الحوش توجد صالة استقبال وهي عبارة عن غرفة صخرية كبيرة واسعة في وسطها أعمدة أنيقة ونوافذ من الطراز الفارسي ومقسمة إلى كبائن بواسطة أعمدة صغيرة، وفي الطرف البعيد من الصالة توجد منصة مرتفعة كان يجلس عليها ملك في يوم من الأيام ويجلس بدله اليوم عبد من العبيد (يقصد فرحات حاكم القطيف وقد كان زنجيًا)، وخلف هذه المنصة توجد متاهة كبيرة من الغرف والممرات والصناديق والطرقات في الطابق الأول والثاني والثالث، وأنا أشاهد هنا درجًا مهدمًا وهنا أرى بابًا يفتح على الخلاء.
النوافذ في الأجزاء السليمة منها مملوءة بالتعاريش الحجرية الجميلة التي تختلف عن سائر التعاريش الأخرى في أنحاء القصر، وتكشف عن عبقرية وذوق رفيع.
أخيرًا وعلى بعد ياردات قليلة من غرفة الاستقبال أو إن شئت فقل القهوة وعلى مستوى الأرض، يوجد شيء يبدو أنه كان يستعمل حوشًا أو ميدانًا للاجتماعات ويحتوي على أعمدة كبيرة مستديرة وتحمل نقوشًا تشبه إلى حد بعيد تلك النقوش التي يشيع استعمالها في منازل بغداد، والتي نجد فيها النقوش الضئيلة تحل محل الألوان وتحول هذا الجزء من البناية إلى مسجد.
ثم نوه بلجريف بملاحظة مفادها أن العقود برغم شيوع استعمالها بين أهل الأحساء، إلا أن استعمال القناطر ليس شائعًا اللهم باستثناء أشكالها البسيطة أو إن شئت فقل الشكل البرميلي، والشيء نفسه يمكن أن تقول عن الممرات المسقوفة الموجودة في قلعة الجوف، هذا يعني أن تلك الممرات المسقوفة في قلعة الجوف تستعمل فيها أيضًا القناطر البرميلية فقط.
كان قصر القرموطي (كما سماه بلجريف) أول المباني التي شاهدناها منذ أن تركنا غزة التي تظهر القناطر المتصالبة في منازلها، مما يدل على تقدم حقيقي في فن العمارة، وهذا ما سوف نشاهده أيضًا في البحرين وعمان.
ثم علق بلجريف قائلًا إن العرب لو تركوا لأنفسهم لما استطاعوا من الناحية المعمارية أن يركبوا قوسين بسيطين مع بعضهما أو أن يصنعوا قنطرة أو قبة، وأكبر دليل على ذلك يتمثل في بيوت العرب الموجودة في كل من جبل شمر والقصيم وفي نجد، سواء أكانت هذه المنازل قديمة أم حديثة، ولكنهم تعلموا من مشاهدة المباني الإغريقية والفارسية وأصبحوا على استعداد لمحاكاة النماذج المعمارية الراقية في كل من إيران وسوريا، إلى أن أصبحوا في النهاية إنشائيين معقولين ولكنهم ليسوا من الطراز الأول.
وأخيرًا نترك للقارئ الكريم تعليق رفيق بلجريف على ما شاهده من فن معماري، حيث قال: إن هؤلاء الذين بنوا هذا المكان لابد وأنهم كانوا أكثر تحضرًا عمن يشغلونه الآن.