يأتي شهرُ كانونِ الأول آخرَ شهورِ السنةِ الميلادية وفيها حملنا أنا وأنتَ من الذكرياتِ ما أفرحنا وما نود اقتلاعه مثلَ الأعشابِ الضارة. نستطيعُ إنقاصَ أوزانِ أجسامنا وزيادتها كلما شئنا، ولكن كم تمنينا أنْ كان باستطاعتنا إنقاصَ وزنِ ذاكرتنا من الأشياءِ البغيضة وزيادةَ وزنها في الأشياءِ الممتعة ولكن هيهاتَ لم يعطنا الله ذلك.
يفرحنا أننا نستطيع إعادةَ توزيع أماكنَ خزنةِ ذاكرتنا وتركَ ما كرهناهُ خلفَ جمجمتنَا وكأننا نسيناه. كادت سنة 2018م أنْ تعبرَ مثلَ طيفِ الحالمِ كما مَرَّ غيرها وبعدها نكبر سنةً في سجل الأعمار، وفي العالمِ العربي نكبر عشراتٍ السنينَ في سنةٍ واحدة! إن كانَ باستطاعتكَ إيجادَ طريقةٍ تقتلع بها وتدفنَ ذكرياتِ البشر المرةِ، أو ابتكارَ مَمْحَاةٍ تعيد ذاكرتهم بيضاءَ كما كانوا صغارًا سوف يعطونكَ الملايينَ من المالِ دون جدل!
عام 2019م، يصادف إكمالَ أربعينَ سنةً منذ قمنا من على مقاعدِ المدرسةِ الثانوية في القطيف عام 1979م وكنا أخلاطًا من جميعِ قرى القطيف، إذ لم تكن هناكَ مدارس ثانوية بَعْدُ في القرى سواها، ننتظر الحافلةَ الصفراءَ الحارة تقلنا في الصباحِ وفي المساء، يغفو سائقها المتعب من السنين في انتظارنا أو ننتظره ولا يأتي. في كل ضارةٍ منفعة حيث عرفنا أناسًا غيرَ الذينَ هم من قريتنا، صحبناهم وعملنا معهم كل هذه السنوات.
شهر كانون الأول يصادف الشهر الذي وصلنا في جماعةٍ للدراسة في أمريكا. كانت الوظائفَ والفرصَ في انتظارنا في تاريخٍ يبكي الآنَ لندرةِ الفرصِ لدى شباب اليوم! كنا صغارًا قليلي الخبرة في الحياةِ والغربة، لكننا كنا طامحينَ في التعلم وصعودِ سلم الرقي. وشهر كانون الثاني يصادف الشهرَ الذي تركتُ فيه أنا العملَ الرسمي وسار الأصدقاءُ في دروبِ الحياةِ المتشعبة مطلعَ عام 2017م، ربَّاهُ كم مرت السنواتُ سريعًا بعدها!
يشبهُ عمرُ الإنسانِ الدالةَ الهندسيةَ التي تبدأ من الصفرِ وتكون في القمةِ عند منتصفِ العمر، ثم تنحدر بسرعةٍ نحو القاع. تمر السنواتُ بطيئةً قبل القمة، نسأل أنفسنا متى تنتهي الدراسة، ومتى نتزوج، ومتى نعمل، ومتى نبني، ومتى ومتى، ثم تمر السنواتُ مثل ظِلِّ الطائرِ في منحنى السقوط، ونقول متى يتوقف بندولُ الساعةِ عن الاهتزاز؟
في كُلِّ كرورِ الأيامِ حقائقَ لا بد أن تمر، وفيها أنك لن تستطيعَ أن تمحوَ ذاكرتكَ ولو أردت ولن تستطيعَ إيقافَ الساعةِ عن الطرق. وهذا يستدعيكَ أن تملأَ حوضَ الذاكرةِ بما فيه البهجة إن تذكرته وأن تعملَ في الوقتِ ما استطعت. لا بأسَ بالراحةِ والسكون بعضَ الوقت، لكن ليس لك أن تضيعَ عمركَ في سواقطِ الفكرِ والأشياء:
أنا عائدٌ إليكَ يا كانونُ فاقبلنـــي
نوارسي ملت الترحالَ والهجــرةْ
هل في شواطيكَ من مرســـى؟
لشيخٍ يرتمي في أحضانكَ البيضاءَ
يغفو على ذكرياتٍ غير آسنــــةٍ
ينادي مريمَ العذراءَ هـزي جــذعَ
النخلِ من عمري وتعودَ النخلُ مخضرة!
تساقط من أعداقهَا رطباً فقد يبســـت
وأحالَ الوقتُ طَعْمَ فراتِـهـا مُـرّا
لكل من سارَ معنَا في دروبِ الحياةِ ألفَ تحية ولمن مشاها كلها شآبيبَ الذكرى والرحمة. أنا أرجو الله أن تكونَ ذكرياتكم بيضاءَ وتكتبوهَا، وأن تكونَ كل ذكرياتِ العربِ والعالم باردةً وبيضاءَ مثل ثلوجِ شهرِ كانون.