أغرى الشيطانُ شيخًا أن يتودَدَ إلى أتان، فربطَ الشيخُ نفسهُ بالعمامةِ على مؤخرتها وحالما أحست الحمارةُ بثقلِ الشيخِ أغراها الشيطانُ بالركضِ في شارعِ القريةِ المزدحمِ بالناس. كان مشهدُ الشيخِ مضحكًا ومخجلًا له، لم يبقَ أحد في القريةِ الصغيرةِ إلا ورأى الشيخَ مربوطًا، عاريًا تجري به الحمارةُ في الطريق.
كادَ الشيخُ أن يموتَ خَجَلًا وقال في نفسه: أنا لا بدَّ أن أهاجر بعيدًا عن القريةِ الملعونة، هم ينسونَ بعدما يموتُ الكبيرُ وتأتي أحداثٌ تتمرد على ما عملته من سوءٍ فأكونَ من النوادرِ الأدبيةِ دونَ أن يذكرَ الناسُ من أنا! بقي الشيخُ بعيدًا في غربته مدةً، غلبهُ بعدها وجعُ البعد، قصد القريةَ في ضحى أحدِ الأيام، مشى في الشارع، طافت به الذكرى الأليمة ولكن لم يضحك أحدٌ أو يتجمهر حوله الناس. فرحَ الشيخُ لكنه سمع لمةَ نساءٍ من القريةِ يحملونَ قِرَبَ الماء، يغتابونَ بعضهن ويتكلمونَ في كُلِّ شاردةٍ وواردة. سألت إحداهنَّ الأخرى كم عمرك؟ وكما هو حال البشرِ يحبون أن يعطيهم الزمنُ عمرًا أصغرَ مما هم! قالت الأخرى رقمًا لم تصدقه التي سألت فثارت حفيظةُ المرأةِ وقالت: كيف لا تصدقينَ كم عمري وأنا ولدت السنةَ التي توددَ فيها الشيخُ للحمارة! لَعَنَ الشيخُ الساعةَ التي غواهُ فيها الشيطانُ ونفى نفسه في الغربةِ حتى مات.
هكذا يحفر التاريخُ في أذهانِ البشرِ أحداثًا صغيرةً تبقى شواهدها، وأحداثًا كبيرةً تجرفها سيولُ النسيان تبعًا لمن رأى ولمن روى. تتغير الألوانُ والمشاهدُ والنتائجُ وتصبح حقائقَ يعتادها الناس. يحكي خيالُ الأدبِ العربي أن امرأةً غنيةً أرادت أن تتزوجَ خادمها الفقير، فتخوفَ الخادمُ مما سوف يقوله الناسُ عن زواجهما. فأمرته المرأةُ أن يشتريَ بعيرًا وشعيرًا، ثم أمرته أن يصبَّ الماءَ على ظهرِ البعير وينثر الشعير. فعل الخادمُ ما أمرته سيدته، أعادَ الفعلَ في الأيام التالية فنبت الشعيرُ على ظهرِ البعير وصار منظرهُ أخضر كالمرعى.
قالت له المرأةُ: اخرج بالبعيرِ على الناسِ ثم عد وقل لي ما رأيت. بعدما عادَ الخادمُ قال لها: خرجَ كُلُّ الناسِ ليروا البعير، أُغلقت الدكاكينُ، توقف الناسُ عما في أيديهم وصاروا يتعجبونَ من البعير. قالت له: حسنًا، اخرج يومَ غدٍ وأخبرني ما ترى. بعدما عاد قال لها: تجمهر الناس ولكن بعضهم لم يأتِ. طلبت منه الخروجَ أيامًا قليلةً بعدها لم يخرج أحدٌ ليرى الشعيرَ فوقَ ظهرِ البعير.
ذاكرتنا نحن البشر يأتيها حدثٌ كُلَّ يومٍ ينسيها ما قبله، بعضها يدخل دائرةَ التاريخِ والسجلاتِ في تفاهته وبعضها يرميه الكاتبُ وراءَ ظهره في سلةِ النسيانِ والاهمال! ولكن حذارِ ففي كُلِّ زمنٍ هناك من هو قابعٌ في سردابِ الذاكرةِ يسجل الحدثَ في قبحه وفي جماله حتى لا ينساه الناس وبعدها لا يهمه كيف نظرَ الناسُ للحدثِ أفي قبحِ الأتانِ أو في جمالِ البعير. إن كنت تحسب أنكَ من التاريخِ اكتبه بيدك في حياتك وكن مثل ذاكَ الذي في السردابِ، يكتبه بكل صدقٍ ولا يمتطي ظهرَ الأتان.