فقه التعايش في السيرة النبوية 2

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

الأصول المنهجية لفقه التعايش:
قبل أن ندخل في رحاب السيرة النبوية المباركة، نؤصل لأهم مرتكزات ثقافة التعايش، على هدي قوله سبحانه وتعالى: منها قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}. فهذه الآية الكريمة تؤكد عدة مسائل مهمة:

الأولى: أنّ الخصوصيات الإنسانية – قومية كانت أو عرقية أو جغرافية – لها واقع في الوجود الإنساني لا يمكن إلغاؤه، باعتبار أنّ تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الإنسان، ولا تمثّل حالة هامشية في حياته.

الثانية: يحترم الإسلام خصوصيات كل أمة بوجهها الإيجابي، بشرط:

1. ألا تتحول تلك المشاركة إلى عقدة عصبية تأخذ ميلًا عدوانيًا تجاه الآخرين، بحيث تبتعد عن الخط الذي وضعه الإسلام.
2. ألا تصبح تلك الخصوصيات فاصلًا يفصل كل فئة من الناس.

وفي الحديث البليغ عن مولانا علي بن الحسين زين العابدين (ع) قال: “الْعَصَبِيَّةُ الَّتِي يَأْثَمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا؛ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْرًا مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبُّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ، وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ” (الكافي: ج 3 ص 308، حديث 7).

الثالثة: يؤكد الإسلام على أنّ التنوع في الخصوصيات الإنسانية هو مظهر من مظاهر التنوع في الخبرات العلمية والعملية، مما يجعل من التعارف بين الشعوب إثراء لكل أمة.

تعايشه (ص) في مكة المكرمة قبل البعثة:
عاش رسول الله (ص) في بيئة يغلب على سكانها عبادة الأوثان، وممارسة الرذيلة وارتكاب الفواحش، وامتد ذلك إلى أنّ القوي فيهم كان يطغى على الضعيف ويأكل حقه، حتى إنّ السيد كان يقهر مَن تحت يده من عبيدٍ وإماءٍ ولا يحترم إنسانيتهم، وكان العربي يتعالى على العجمي، وكان الأبيض يفخر على الأسود.

ويصف حالهم جعفر بن أبي طالب (ع) حين خطب أمام النجاشي فقال: “أيّها الملك، كُنّا قوماً أهلَ جاهِليَّة، نعبدُ الأصنام، ونأكلُ الميتة، ونأتي الفواحِشَ، ونقطعُ الأرْحام، ونسيء الجوار، ويأكلُ القويُ مِنّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتّى بعث الله إلينا رسولًا منّا نعرف نسبَه وصدقَه وأمانَتَه وعفافَه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلعُ ما كنّا نعبدُ نحنُ وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسْنِ الجوار، والكفِّ عن المحارم والدّماء، ونَهانا عنِ الفَواحِش وقول الزُور، وأكل مالِ اليَتيمِ، وقذفِ المحصَناتِ، وأمَرنا أنْ نَعبُدَ الله وَحدَهُ لا نشركُ بِهِ شيئًا، وأمَرَنا بالصّلاةِ والزّكاةِ والصِيام… وصدّقناهُ، وآمَنّا به واتَّبْعناهُ على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحدَه فلم نشرك به شيئًا وحرَّمنا ما حرّمَ عَلَيْنا وأحللنا ما أحلَّ لنا، فَعدا علينا قومَنا فَعذَّبُونا وفتنونا عن ديننا ليردُّونا إلى عبادة الأَوثان مِنْ عِبادَة الله تعالى، وأنْ نَسْتَحِلَّ ما كنا نَستحِلَّ من الخَبائث” (السيرة النبوية: ج 1 ص 335-336، ومسند أحمد: ج 4 ص 286).

وقد وصفت مولاتنا السيدة فاطمة الزهراء (ع) العهدَ الجاهلي بمثلِ ذلك إذ قالت في خطبتها أمام المسلمين: “فَبَلَّغَ (أي رسولُ الله) بالرِّسالة، صادِعاً بالنَّذارة (النذار: الأنذار)، مائلاً عَلى مَدْرَجَةِ (المدرج والمدرجة: المذهب والمسلك) المُشْركيْن، ضارباً ثَبَجَهُمْ (الثبج: وسط الشيء ومنه الكاهل)، آخِذاً بأَكْظامِهمْ، داعِياً إلى سَبِيْل رَبِّه بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعظَةِ الْحَسَنَةِ، يَكْسِرُ الأَصْنامَ، ويَنْكُتُ (ينكت: يلقيه ويطرحه) الهامَ (الهامة: الرأس)، حتّى انْهَزَمَ الجَمْعُ، وَوَلُّوا الدُّبُر، حَتى تَفَرّى (تفرى: تشقق) الليلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأَسْفَرَ الحَقُ عَنْ محْضِهِ (المحض: الخالص)، وَنَطَقَ زَعيمُ الدين، وَخَرستْ شَقاشق ُ(الشقشقة: شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير إذا هاج؛ والمراد منه هنا تكلم الشياطين بملء أفواههم بجرأة وشهامة) الشَّياطين، وأطاحَ وَشِيظُ (الوشيظ: الأتباع والخدم) النِّفاقِ، وانَّحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ والشِّقاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإخْلاص في نفَر مِنَ البيض الْخِماص، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَة مِنَ النّار مُذْقَةَ (المذقة: شربة من اللبن الممزوج بالماء) الشّارب، وَنُهْزَة (النهزة: الفرصة) الطامِع، وقَبْسَةِ العِجْلان (قبسة العجلان: الشعلة من النار الّتي يأخذها الرجل العاجل)، وَمَوطئَ الأَقْدامِ؛ تَشْرَبُونَ الطَرقَ (الطرق: الماء الذي خوّضته الإبل وبوّلت فيه)، وَتَقْتاتُونَ القِدَّ (القد: قطعة جلد غير مدبوغ) وَالوَرق، أذِلَّةً خاسِئينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتخَطَّفَكُم النّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذكُمُ الله تَعالى بِمُحَمَّدٍ بَعْدَ اللُّتَيّا وَالَّتي، بَعْدَ أن مُنِيَ بِبُهْم (البهمة: الشجاع الذي لا يهتدي من أن يؤتى) الرجال، وَذُؤبانِ الْعَرَب، وَمَرَدة أهْلِ الْكِتاب (المارد : العاتي)، كُلَّما أوْقَدُوا نارًا لِلْحَربِ أطْفأَها اللهُ، أوْ نجَمَ (نجم: طلع) قَرْنُ الشَّيْطانِ، أوْ فَغرَتْ (فَغرت: فتحت) فاغِرَةً مِنَ الْمُشركيْن…” (نثر الدر للآبي: ج 4 ص 8، وأمالي الطوسي: ج 1 ص 338 الحديث 55، وبلاغات النساء لأحمد بن أبي طاهر بن طيفور ، ومنال المطالب لابن الأثير: ص 588، وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب، لابن الدمشقي: ج 1 ص 155).

حلف الفضول:
في هذه البيئة غير السوِّية عاش رسول الله (ص) مع قومه متآلفًا معهم، يقوم بدور اجتماعي فعَّال، ويتعاون في أمور البر والخير.

ولعل أكثر الشواهد وضوحًا وجلاء في إفادة اهتمام الإسلام بصياغة مجتمع المواطنة ما يروى من أنّ النبي (ص) قد استحسن حلفًا شهده في صباه وهو حلف عقدته قريش قبل الإسلام سمي (حلف الفضول)؛ فقد لاحظ بعض زعماء قريش أنّ منهم من أصبح يجور ويظلم الناس مستندًا إلى مكانته الاجتماعية، ومن ذلك أنّ العاص بن وائل اشترى بضاعة من أحد التجار الغرباء الوافدين على مكة. ورفض أن يسلمه الثمن، فتداعت قريش إلى دار عبدالله بن جدعان وتعاهد الحاضرون على أن يكونوا يدًا واحدة مع كل مظلوم على الظالم فردّوا للبائع الغريب حقه، وتأصل في تقاليدهم مقتضى هذا الحلف. (شفاء الغرام: ج 2 ص 163 – 164، وإتحاف الورى: ج 1 ص 120، وتاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 17، ومروج الذهب: ج 2 ص 271، والطبقات الكبرى: ج 1 ص 129، والبداية والنهاية: ج 2 ص 292، والسيرة الحلبية: ج 1 ص 132، والكامل في التاريخ: ج 1 ص 473).

وقد تمسك النبي (ص) بهذا الحلف، وعمل بمقتضاه حتى بعدما عادته قريش وضيّقت عليه هو وأصحابه.

ولذا نرى أنّ مجموعة من علماء الإسلام قد اعترفوا بهذا الحلف وبشرعيته (أنظر: المجموع للنووي: ج 19 ص 384، وتهذيب الأسماء: ج 3 ص 181، وسنن البيهقي: ج 6 ص 367، وفتح الباري: ج 4 ص 387).

وفي السيرة النبوية يُروى أنّ أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص جمالًا، فماطله بأثمانها.

فوقف الرجل على نادي قريش وقال: يا معشر قريش مَن رجلٌ يعينني على أبي الحكم بن هشام، فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟!

فدلته قريش على النبي (ص) لينصفه من أبي جهل؛ استهزاء برسول الله (ص)، لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل، وقالوا له: أترى ذلك الرجل – يعنون رسول الله – اذهب إليه فهو يعينك عليه.

فجاء الرجل إلى رسول الله (ص) فذكر له حاله مع أبي جهل، فخرج مع الرجل إلى أبي جهل وضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟! قال: محمد.

فخرج إليه وقد انتقع لونه (أي تغير من الرهبة) فقال له: أعطِ هذا حقَّه. قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له.

فدفعه إليه، ثم إنّ الرجل أقبل حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرًا، فقد والله أخذ لي بحقي (السيرة الحلبية: ج 1 ص507).

أيها الأحبة..
بتلك الأمثلة وغيرها ينبغي على المسلمين أن يقتدوا في تعاملهم مع الآخر، حيث يضعون نصب أعينهم هدي الرسول (ص) في التعامل مع غير المسلمين وحرصه على التمسك بالأخلاق والمبادئ الإسلامية القويمة التي تحث على الوفاء والصدق والأمانة، فقد كان (ص) يعرف في مكة قبل البعثة بأنه الصادق الأمين؛ ولم يعرف عنه أبدًا أنه خان أمانة أو نقض عهدًا أو كذب يومًا.

إنَّ نموذج التعايش في مكة مع الآخر قبل البعثة – وكان المقام فيه (مقام التعايش والوفاء والتعاون على البر والخير) – يدفع المسلمين الذين يعيشون في مثل تلك الظروف – في أي زمان أو مكان – إلى التمسك بعقيدتهم وعدم التفريط في ثوابت وأصول الإسلام مع الالتزام بمكارم الأخلاق التي تؤسس وترسخ تلك العلاقة مع الآخر بما يضمن السلم والاستقرار الاجتماعي، ويكشف عن حقيقة الإسلام وسماحته أمام العالمين.

وثمّة مبدأ في العلاقات الدولية أكده الإسلام ألا وهو (التحالف)، واحترام المواثيق والعهود في العلاقات بين الأفراد والجماعات والدول، ولكن على أساس أن ينطلق هذا التحالف من أساسٍ متين في احترام حقوق الإنسان والدفاع عن المظلومين.

حتى إنّ النبي (ص) أشاد بحلف الفضول، وأثنى عليه، وقال في تأييده: “لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِاللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ” (السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 133).

لقد كان حلف الفضول معاهدة مجتمعية مبكرة واتفاقًا على مناهضة الظلم وإيقاف الظالمين أمام سلطة المجتمع، وإن لم يكن للدولة حضور أو وجود.. وقد مثل المتحالفون حقيقة المجتمع المدني الحي اليقظ، الحامي لقيم العدل والمناهض للظلم والعدوان.

ولهذا فكل المواثيق الدولية التي تحترم الإنسان وتدافع عن حقوقه يقرّها الإسلام حتى لو جاءت من غيره أو وضعها الآخرون.

بيد أنّ الإسلام لا يقرّ الأحلاف التي تتمّ على حساب شعوب وجماعات أخرى أو التي تظلم فيها هذه الجهة أو تلك، فموازين القوى ليست هي التي تمنح العقود والمواثيق شرعيتها، وإنما الذي يعطيها الشرعية هو ما تملكه من عناصر الحق ونصرة المظلوم. ولذلك فإن الظلم مهما أعطي من عناوين دولية برّاقة كعنوان الديمقراطية الذي يمثّل الإدارة الأمريكية الحالية، فإنّ ذلك لا يغيّر من الحقيقة شيئًا، ولأنّ العناوين لا تبدّل حقائق الأمور وطبيعتها.

وعلى هذا الأساس، كنّا نحذِّر من الانتقائية في تطبيق المواثيق والعهود، وألا يُفسح المجال للقوة الغاشمة بأن تفرض نفسها على ساحة هذه المواثيق على المستوى الدولي انطلاقًا من قدرتها على الضغط هنا وهناك وعلى تزييف الحقائق، وهو الأمر الذي تجيده الإدارة الأمريكية، حيث تنطلق من موقع عدوانها ومخاصمتها لأسس القانون الدولية لتدّعي أن ما تقوم به إنما هو لتطبيق هذا القانون غير آبهة بكل التفسيرات والتحذيرات لها من مخاطر هذا الفهم لمسألة القانون الدولي، والذي ينطلق من نزوة العدوان وحبّ السيطرة والاستيلاء.

ومن منطلق حلف الفضول:

فإننا ننظر إلى أي توافق يتمّ على الساحة الإسلامية وإلى أي تقارب، وخصوصًا بين السنة والشيعة، نظرةً إيجابية عمومًا، وندعو إلى التعامل مع هذا التقارب بروح إيجابية حتى لا تبقى اللقاءات مجرد كلمات كتبت أو مواقف صدرت، بل ترقى إلى مستويات التعاون العملي الذي تتم ترجمته على مستوى الواقع في حركة تواصل وتنسيق يحترم فيها كل فريق الفريق الآخر ولا يسيء إليه أو إلى مقدساته ورموزه وخصوصياته.

ونحن في الوقت نفسه، ندعو كل العاملين للإسلام إلى رصد هذا التقارب وما يحمله من إيجابيات في محاولة لتعميمه في الساحة الإسلامية كلها، وحتى في الساحة الوطنية، وملاحقة ما فيها من سلبيات للعمل على معالجتها بالطريقة التي تحفظ توازن الساحة الإسلامية والوطنية على السواء، لأن أي تقارب يُفضي إلى التعهد بعدم الاعتداء ويجمع صفوف المسلمين ولا يفرقها يمثّل حماية للدين الحنيف وللمجموعات الإسلامية وللمجتمع المدني كله، وقد شهد النبي (ص) حلف الفضول الذي يمنع بموجبه أي فريق من الاعتداء على فريق آخر ويجعل القبائل تقف مع المظلوم ضد الظالم، وقال: لو دعيت إلى مثله في الإسلام لفعلت… فكيف إذا كانت المسألة تتصل بحفظ المسلمين ورصّ صفوفهم ومنع الفتنة التي يروج لها المستكبرون من أن تأكل الأخضر واليابس في واقعهم.

لقد كنّا نقول دائمًا: إن الأساس الذي يجمع المسلمين هو الوثيقة الإلهية المتمثلة في القرآن الكريم وفي سنّة النبي (ص). قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}، ومن الأهمية بمكان أن تنزل هذه الآية إلى الواقع العملي، بحيث نخرج من حالة الشعار والعناوين العامة إلى ساحة التلاقي حول النقاط المشتركة – وهي كثيرة – للعمل في سبيل تجسيد العزة الإسلامية على صعيد الواقع.

ولذلك؛ فإننا نؤكد ضرورة أن يستتبع أي تقارب على المستوى السياسي والاجتماعي العام محاولات مسؤولة لتأكيد الوحدة انطلاقاً من الخطوط الثقافية والفكرية والعقائدية التي أكّدها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ لأن ذلك هو الذي يحمي أية حركة للتقارب والتعاون، ويؤصّل انطلاقاتها ويفتح الآفاق الرحبة لتحقيق أهدافها وغاياتها.

وإننا نرحّب بأي سعي جدي لمواجهة الجماعات والحركات والتوجهات التكفيرية وصنّاع الأساطير والخرافات، ومنتجي الغلو والتطرّف داخل الساحة الإسلامية الشيعية والسنية، لأننا نرى في هؤلاء الخطر الداهم على الإسلام والمسلمين وعلى الأمة كلها والدين كله، وقد عانينا من هؤلاء كثيرًا في محاولاتهم المستمرة لتضليل وتفسيق وتكفير من يختلف معهم في الرأي، ونريد لأي توجّه يسعى لمواجهة هؤلاء أن ينطلق من قاعدة إسلامية أصيلة يتوحّد فيها السنة والشيعة، وينزل فيها الدعاة والعاملون إلى الميدان ليواجهوا كل أساليب السبّ والشتم واللعن والتكفير بحملة ثقافية إسلامية مدروسة تستهدي كلام الإمام علي (ع): “احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ”.

الإمام الحسين على خطى جده المصطفى:
أحيا الإمام الحسين (ع) حلف الفضول في ظلامتين تعرض لهما:

الحادثة الأولى: كان من سياسة معاوية بن أبي سفيان إفقار بني هاشم، فأراد والي المدينة ابن أخيه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان السيطرة على بستان كبير كان أمير المؤمنين (ع) قد استنبط ماءه، وأنشأه في وادي القرى.

فقال له الحسين (ع): احلف بالله لتنصفنّي من حقّي أو لآخذنّ سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله، ثم لأدعونّ بحلف الفضول.

وكان عبدالله بن الزبير عند الوليد فقال: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثم لأقومنّ معه حتى يُنصف من حقه أو نموت جميعًا.

وبلغ هذا المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك.

وبلغ ذلك إلى عبد الرحمن بن عثمان التيمي فقال مثل ذلك.

فلمّا بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي (ع) (السيرة النبوية: ج 1 ص 43، وأنساب الأشراف: ج 2 ص 14، والكامل في التاريخ: ج 1 ص 474، والبداية والنهاية: ج 2 ص 293، والسيرة الحلبية: ج 1 ص 132).

وقد روى أبو هلال العسكري الخبر الذي رواه ابن إسحاق عن تحامل الوليد على حق الإمام الحسين (ع) في أرض له بذي المروة، على غير ما رواه ابن إسحاق، فقال: “كان بين الحسين (ع) وبين معاوية كلام في أرض للحسين، فقال الحسين لابن الزبير: “خيّره في ثلاثة والرابعة الصيلم -أي الصدام المـسلح-: أن يجعلك أو ابن عمر بيني وبينه، أو يشتريه مني، أو يقر بحقي ثم يسألني أن أهبه له، فإن أبى فوالذي نفسي بيده لاهتفن بحلف الفضول” وفي نهاية المطاف استسلم معاوية إلى مطالب الإمام الحسين (ع)، وقال: لا حاجة لنا بهذه… (الأوائل: ج 1 ص 73-74، وتاريخ دمشق: ج 59 ص 180).

إنّ دعوة الحسين (ع) بحلف الفضول، إنما كانت منه (ع) لأنه كان يعلم من خلال دراسته للأوضاع وللنفسيات أنّ هذه الدعوة سوف لن تنتهي إلى حد الخطر الأقصى. وقد كان يهدف منها إلى تعريف الناس على واقع وحقيقة بني أمية، وأنهم ظالمون عتاة، ولا يهتمون بالحفاظ على العهود والمواثيق التي تهدف إلى نصرة المظلوم، والدفاع عن الحق.. وقد خاف معاوية من هذا الأمر بالذات، فاستسلم للحسين (ع)، وأرجع الحق إلى أصحابه.

الحادثة الثانية: عندما منعوه (ع) أن يزور بجنازة أخيه الحسن (ع) قبر النبي (ص).

ومعنى ندائه (ع) بحلف الفضول أنه وقف وشهر سيفه ونادى: يا لحلف الفضول. فهذه عادة العرب في الدعوة بالحلف.

جاء في (تاريخ دمشق: ج 13 ص 291):
وصاح مروان في بني أمية ولفُّها وتلبسوا السلاح وقال مروان: لا كان هذا أبدًا!
فقال له الحسين: يا ابن الزرقاء ما لك ولهذا أوالٍ أنت؟!
قال: لا كان هذا ولا يخلص إليه وأنا حي.
فصاح الحسين بحلف الفضول فاجتمعت بنو هاشم، وتيم، وزهرة، وأسد، وبنو جعونة بن شعوب من بني ليث قد تلبسوا السلاح.
وعقد مروان لواء، وعقد الحسين بن علي لواء، فقال الهاشميون: يدفن مع النبي (ص) حتى كانت بينهم المراماة بالنبل! وابن جعونة بن شعوب يومئذ شاهر سيفه! فقام في ذلك رجال من قريش: عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، والمسور بن مخرمة بن نوفل، وجعل عبدالله بن جعفر يُلحُّ على الحسين وهو يقول: يا ابن عم ألم تسمع إلى عهد أخيك إن خفت أن يهراق فيَّ محجمة من دم فادفني بالبقيع مع أمي أذكرك الله أن تسفك الدماء! وحسين يأبى دفنه إلا مع النبي (ص) وهو يقول ويعرض مروان لي ماله ولهذا؟!

قال: فقال المسور بن مخرمة: يا أبا عبد الله اسمع مني قد دعوتنا بحلف الفضول وأجبناك، تعلم أني سمعت أخاك يقول قبل أن يموت بيوم: يا ابن مخرمة إني قد عهدت إلى أخي أن يدفنني مع رسول الله (ص) إن وجد إلى ذلك سبيلًا، فإن خاف أن يهراق في ذلك محجم من دم فليدفني مع أمي بالبقيع، وتعلم أني أذكرك الله في هذه الدماء! ألا ترى ما هاهنا من السلاح والرجال، والناس سراع إلى الفتنة.

قال: وجعل الحسين يأبى وجعلت بنو هاشم والحلفاء يلغطون ويقولون: لا يدفن إلا مع رسول الله (ص)!

قال الحسن بن محمد: سمعت أبي يقول لقد رأيتني يومئذ وإني لأريد أن أضرب عنق مروان، ما حال بيني وبين ذلك ألا أكون أراه مستوجبًا لذلك، إلا أني سمعت أخي يقول إن خفتم أن يهراق فيَّ محجم من دم فادفنوني بالبقيع! فقلت لأخي: يا أبا عبدالله وكنت أرفقهم به: إنا لا ندع قتال هؤلاء جبنًا عنهم ولكنا إنما نتبع وصية أبي محمد، إنه لو قال والله ادفنوني مع النبي (ص) لمتنا من آخرنا أو ندفنه مع النبي، ولكنه خاف ما قد ترى! فقال: إن خفتم أن يهراق فيَّ محجم من دم فادفنوني مع أمي، فإنما نتبع عهده وننفذ أمره. (ورواه ابن سعد في القسم غير المطبوع من الطبقات، في ترجمة الإمام الحسن C وقد طبعه السيد عبدالعزيز الطباطبائي: ص 86).

وقد حقق الإمام الحسين (ع) هدفه من استنفار حلف الفضول، فأكد بذلك شرعيته واستمراره، وبعث برسالة إلى معاوية والسلطة، واختبر مع علمه استجابة هذه القبائل عمليًا لنداء حلف الفضول.


error: المحتوي محمي