﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
بعث الله تعالى نبيه وحبيبه محمدًا (ص) لإشاعة الرحمة بين البشرية، وأراد سبحانه للرحمة أن تتحول إلى نظامٍ عمليٍّ شاملٍ لحياة الإنسان في كل ما يصلحُها ويبتعد بها عن الفساد، لا أن تكون مجرّد عاطفة وإشفاق.
وللأسف أنّ كثيرًا من المسلمين يفهم من كلمة الرحمة، الحالة العاطفية التي ينبض بها القلب! ولكن الرحمة في الإسلام وفي التشريع تمثل نظامًا عمليًا في الحياة، لذا قال الله – سبحانه وتعالى – عن النبي (ص): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.
وفي عصرنا الحاضر قد نجد -في واقعنا- بعض الناس الذين يستسلمون لبعض الفئات التي تتزيّى باسم الدين، والتي ينفتح الناس عليها على أساس أنّها الرحمة التي تقربهم إلى الله. وربما ينطلق البعض من هؤلاء ليقدموا أنفسهم على أنهم يملكون مفاتيح رحمة الله ومواقع القرب منه، ولكنهم في الواقع يخدِّرون الناس من خلال ربطهم بالدين عن طريق الخرافة والمغيِّبات، على أساس ادّعائهم أنهم يملكون بعض الغيب في ذلك، ويحدِّثونهم عنه في بعض ما يعانونه، ذريعة لاستغلالهم ماديًا وفكريًا.
فهل هذه هي الرحمة المنشودة؟!!
فالنبي (ص) لم يكن كذلك، بل كان رحمة للعالمين، رحمةً في رسالته، ورحمةً في شرعه، ورحمةً في أخلاقه، ورحمةً في منهجه في كل مجالات الحياة، لا مجرد عاطفة وإشفاق.
وهكذا تمثّلت الرحمة في الحياة، في ظل نظامٍ قائمٍ على أساس احترام العقل والنفس، ليعيش الإنسان في المجتمع الإسلامي الأمن والطمأنينة في ذلك كله.
التعايش السلمي في السيرة النبوية:
يؤسس النص القرآني صيغة للتعارف والتعايش في الاجتماع البشري، مبنية على الأمن والتسامح والسلم الأهلي، في آيات متعددة، منها قوله:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
ويهدف الإسلام إلى إقامة علاقة سليمة مع كل الشعوب، تؤخذ فيها بنظر الاعتبار حقوق الجميع وتعزيز التعايش السلمي بينهم، وتساعد على استمرار السلم والصداقة، وتستند على قاعدة قرآنية متينة وهي ﴿لا تظْلِمونَ ولا تُظْلَمونَ﴾، ومن هنا أرسى الإسلام قواعد وأسسًا للتعايش مع الآخر في جميع الأحوال والأزمان والأماكن، بما يضمن تفاعلهم مع الآخر وتواصلهم معه من دون تفريط في الثوابت الإسلامية.
ويظل الرسول الأكرم (ص) الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة في كل شيء، مصداقاً لقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ﴾. وقد ترك رسول الله (ص) لنا نماذج عديدة للتعايش مع الآخر داخل المجتمع الإسلامي وخارجه، وهي صالحة للمسلم في كل عصر بحسب مقتضيات الحال والمكان والزمان.
وتمثل تلك النماذج منهجًا ونبراسًا للمسلمين في علاقتهم مع الآخر، ليكونوا في مقدمة الأمم في الدعوة إلى السلام والتعايش السلمي مع مختلف الأمم والطوائف، وذلك بالتزامهم بثوابت الإسلام ومبادئه التي تدعو إلى الخير والبر والتعاون في إطار من الاحترام المتبادل.
وهي نماذج قائمة لا يعتريها إبطال أو تعطيل، وواقع وحال الأفراد أو الجماعات هو الذي يحدِّد للمسلم في هدي أي نموذج يمكن أن يتواصل ويتعاون ويحقق السلام الاجتماعي والتعايش مع الآخر.
مفهوم التعايش:
التعايش في اللغة: الاشتراك في الحياة على الألفة والمودة. وهي على وزن (تفاعل) الذي يفيد وجود العلاقة المتبادلة بين الطرفين. وهذا اللفظ استعمل في سبعة مواضع من القرآن الكريم بتصاريف متعددة: (الحاقة: 21، والنبأ: 11، وطه: 124، والقصص: 58، والزخرف: 32، والأعراف: 10).
وسيرًا على المعنى اللغوي تكون كلمة (السلمي) وصفًا مؤكدًا لطبيعة التعايش.
ويسود مصطلح التعايش السلمي في الأوساط البدائية في المجال الاجتماعي، كالتعايش بين الأفراد أو المجموعات الأثنية أو القبلية، وانتقل المصطلح من المجال الاجتماعي إلى المجال السياسي في ظل الدولة الحديثة القائمة على أساس التنوع الديني أو الأثني، وما ينتج عنه من صراعات ونزاعات، ثم صار الآن مطلبًا دوليًا في ظل الصراعات العالمية والدولية.
ومصطلح التعايش السلمي – كشعار سياسي – يعني البديل عن العلاقة العدائية بين الدول ذات النظم الاجتماعية المختلفة، ومع هذا لا مانع من التوسع في استخدامه في ساحة العلاقات الاجتماعية بين أتباع الديانات المختلفة وبخاصة المقيمين في دولة واحدة.
وإذا كان المفهوم يتجه إلى التعايش بين الاتجاهات المتباينة دينيًا أو سياسيًا فالحاجة ماسة -أيضًا- لبلورة رؤية مستوعبة حتى لأهل الملة الواحدة المتفقة دينيًا والمتباينة من بعض الوجوه التي تؤدي إلى الاحتراب في كثير من البلدان.
وإذا كان الأمر كذلك فإنّ التعايش السلمي يمكن أن يشمل الآتي:
– التعايش بين أهل الملة الواحدة.
– التعايش بين أهل الملل المختلفة.
– التعايش بين الدول المختلفة سياسيًا.
– التعايش بين القوى الاجتماعية المختلفة.
الأصول المنهجية لفقه التعايش:
نحن قبل أن ندخل في رحاب السيرة النبوية المباركة، نؤصل لأهم مرتكزات ثقافة التعايش، على هدي قوله سبحانه وتعالى: منها قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
فهذه الآية الكريمة تؤكد عدة مسائل مهمة:
الأولى: الخصوصيات الإنسانية القومية والعرقية والجغرافية لها واقع في الوجود الإنساني لا يمكن إلغاؤه، باعتبار أنّ تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الإنسان ولا تمثّل حالة هامشية.
الثانية: يحترم الإسلام خصوصيات كل أمة بوجهها الإيجابي، بشرط:
1. ألا تتحول تلك المشاركة إلى عقدة عصبية تأخذ ميلًا عدوانيًا تجاه الآخرين، بحيث تبتعد عن الخط الذي وضعه الإسلام.
2. ألا تصبح تلك الخصوصيات فاصلًا يفصل كل فئة من الناس.
وفي الحديث البليغ عن الإمام زين العابدين (ع) قال: “الْعَصَبِيَّةُ الَّتِي يَأْثَمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا أَنْ يَرَى الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْرًا مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبُّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ، وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ” (الكافي: ج 3 ص 308، حديث 7).
الثالثة: يؤكد الإسلام على أنّ التنوع في الخصوصيات الإنسانية مظهر من مظاهر التنوع في الخبرات العلمية والعملية، مما يجعل من التعارف بين الشعوب إثراء لكل أمة.
وسيكون لنا -إن شاء الله- حديث مفصل في التعايش في السيرة النبوية المباركة.
في ذكرى المولد الشريف:
وفي هذا اليوم نؤكد على ما عاش من أجله رسول الله (ص) من أنّ العلاقة بين الله وبين عباده هي بالعمل لا بالقرابة والمال والامتيازات.
وقد أكد (ص) أنّ العمل هو الذي يمثل القيمة عند الله، بقوله: “مَعَاشِرَ النَّاسِ، لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ شَيْءٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْراً أَوْ يَصْرِفُ عَنْهُ شَرّاً إِلَّا الْعَمَلُ. أَيُّهَا النَّاسُ، لا يَتَمَنَّ متمنٍ وَلَا يَدَّعِ مُدَّعٍ (على طريقة من يقول: إني أستطيع أن أفعل كل شيء وأهل البيت G يدبّرون لنا الأمر يوم القيامة)، أَمَّا إِنَّهُ لَا يُنْجِي إِلَّا عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ، وَلَوْ عَصَيْتُ لهويتُ”..
وفي هذه الكلمة، وكأنه (ص) يستدعي إلى أذهاننا آيتين في كتاب الله:
الأولى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾، أي: لا تقولوا نحن مسلمون ولا يدخل النار مسلم مهما عمل، أو أن يقول أهل الكتاب: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، فالعلاقة بين الله وبين الناس هي علاقة العمل، والذي يعصي الله ليس له أيّ امتياز، ولا يمكن لأحد أن ينصره من الله..
والثانية: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، حيث يحذر النبي (ص) الناسَ من معصية الله، وهذا هو الخط الإسلامي الذي يلغي كل الامتيازات والعناوين والأنساب، وهذا ما لا بد لنا أن نقف عنده لنتدبر أمورنا، ولنعرف كيف نطيع الله تعالى من دون أي امتيازات. صحيح أنّ هناك الشفاعة، ولكن الشفاعة مشروطة بالعمل، وهذا ما عبّر عنه رسول الله 2: “لا ينجي إلا عمل مع رحمة”.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.