خطوطٌ من الفضة

“الحاضرُ غرسُ الماضي والمستقبل جني الحاضر والتاريخ سجل الزمنِ لحياةِ الشعوبِ والأشخاصِ والأمم”!

كانت بساطة الحياةِ في الستيناتِ وما بعدها قليلًا مخلوطةً بكثيرٍ من التعبِ والألم. يقرأها إنسانُ اليومِ يحسبها متعةً لكنها كانت أكوامًا من المرارة.

يأتي المطرُ ومن كان يعيش في بيوتٍ من جريدِ النخلِ وجذوعها، ليس له سقفٌ يحميه من المطر، يدافع عنها بكلتا يديه ويضع الأواني يتجمع فيها المطرُ حتى لا تفيضَ تلك الحجرةُ الصغيرة، أرضها ليست إلا امتدادًا لخارجها، من الطينِ والرمل. يصلي الفقيرُ ألا يطولَ المطرُ الذي يحتاجه لزرعهِ وحاجياته كأنه واقفٌ على جبلٍ جانبه البحر العميق والآخر الصخورُ المسننة، أيَّ جهةٍ سقط سوف تؤذيه. لا ترحمه شهورُ الصيفِ أيضًا والتي طالما أحرقت منزله في حرارتها.

لم تكن عرباتُ النقلِ كثيرة ولا الشوارعَ مسطحةً مثل اليوم، يبقى المطرُ في الأزقةِ أيامًا نرفع فيه أطرافَ ثيابنا البيضاءَ خوفَ البللِ والوحل. نفرح أنَّ هذا كان جزءًا من الماضي لكن في عالمنا اليوم مئات الملايينِ من البشرِ يعيشونَ في بؤسٍ وشقاء ومن قالَ: إنَّ الماضي لا يعود بشيءٍ من التعبِ والبؤسِ في صورةٍ أخرى؟ قانونُ التداولِ لا يزال ساريًا بين المجتمعات! ما تملكه اليوم هو لغيركَ في الغدِ أو بعده.

في غياهبِ الشقاءِ يسرق الصغارُ لحظاتِ الأملِ والفرح، نخرجُ في المطرِ الذي تبتل به الحقول، فيه مكانٌ للعبِ ومكانٌ للركضِ بين ما كانَ من الطبيعةِ وعيونِ الماء، لا نعود إلا بعدَ ساعاتٍ من اللهو، لا يكترث بالمطرِ من كانَ الأملُ يلعب في عقلهِ والحبُّ يعبثُ في قلبه. لم يفقد الناسُ الأملَ عندما كانوا في أوديةِ الحاجة، كانوا يرونَ الخطوطَ الفضيةَ بين كل سحابةٍ وكانت الأمهاتُ يُمنِّيْنَ صغارهن: “تكبر العيال وتعمر الديار” وهكذا تغيرت أحوالُ الناس. بين أكواخِ الأمسِ وقصورِ اليوم بنينا الكثيرَ من الأسمنتِ والطوبِ وقليلًا من المجد، أنتم يا من لم تشاطرونَا التعب عليكم أن تبنوا كثيرًا من العلا وقليلًا من الطوب!

تاريخٌ وحياةٌ مضنيةٌ مضت، كل الصلاةِ والرجاءَ ألاَّ تعود، لكنَّ سجل الحياةِ تحكمه جبالٌ وأوديةٌ من التغيرات التي لا تنتهي إلا في نهايةِ البشر أو حسنَ تصرفهم فيما أعطاهم الله فكل ما يعطي اللهُ عاريةً يستردها متى شاء!

إنما الدنيا عــــوارٍ
والعواري مسترده
شــدةٌ بعد رخــاءٍ
ورخـاءٌ بعد شــده

اعتذرَ لنا شهرُ تشرين الثاني عن محل السنةِ الماضية، جاء ممطرًا وأحيا من الأرضِ والطبيعةِ ما مات. كل شيء يعود حيًا إذا ماتَ إلا روح الإنسانِ وعقله لا يعودان إن ماتا! قطراتُ المطرِ تقول تسألني:هل تشتاقَ إلى البيتِ القديم؟ روحي نعم وجسدي لا!


error: المحتوي محمي