رياحُ الشمال

في الستيناتِ وأوائلِ السبعينات من القرن الماضي، كان على الصيادينَ أن يعرفوا وقتَ المد والجزر بعقولهم، لم يكن عندهم آلةٌ تحسب لهم الأوقاتَ وتُعلمهم متى يستطيع البحرُ استقبالهم. ينام البحارُ في ليلِ الشتاءِ وَجِلًا، مثل الثعالب، يُغمض عينًا ويفتح أخرى حتى لا يفوته الوقتُ الذي يمكنه امتطاء الحمارِ والتوجه لمجمع البحارة. ربما كانت الساعة الثانية أو الثالثة ليلًا، لا يهم، فالبحارُ لا يفكر إلا في كيفَ يصطاد وكم يصطاد وبكم يبيع ما يصطاد.

في ليلِ الشتاءِ يبرد البحارُ وينام دقائقَ فوقَ العربةِ، دونَ أن يعلمَ الحمارُ، الذي يعرف من أولِ ركلةٍ أينَ هو ذاهب. يصل الحمارُ، يتثاءب البحارُ الذي قد يكون سبقه البحارةُ الأصغر سنًا إلى مجمعهم. في الليلِ ليس هناكَ سوى بضع تمراتٍ وفنجان قهوة يأخذها البحارُ وهو يمد عينهُ نحوَ الموجِ يستكشف متى يستكين البحرُ ويعطي البحارَ شيئًا مما يحويه. تتنوع أحاديثُ البحارةِ وأصعبها حين يقصونَ على بعضٍ ما حصلَ في البارحةِ واليوم السابق “لحضرة” أحدهم التي اقتلعت رياحُ الشمالِ التي تشتد في أشهرِ الشتاءِ جريدها وعليه أن يبحثَ عمن يستطيع إصلاحها، والأكثر حزنًا عندما تسمعهم يذكرونَ فلانًا ذاكَ الذي التقمهُ البحرُ ولم يعد أو عادَ بعضُ متاعهِ مع أصدقائه.

يفرح البحارُ عندما يقارب “سر الحضرة” ويدخله مادًا شبكتهُ الصغيرة، يمشي ويطرد السمكَ الوافرَ بين يديه ويجمعه، وتصيبه الخيبةُ عندما تكون الحجرةُ فارغةً أو فيها ما لا يريده من الأسماكِ التي لا يأكلها الناس. يجمع البحارةُ ما اصطادوا ثم مرةً أخرى يتقاسمونَ الأحاديثَ عما جمعوا وعما لم يجمعوا، قبيل امتطاءِ الحمارِ وغفوةٌ قصيرة حتى يصل الحمارُ الحظيرةَ التي يعرفها دونَ الآلةِ التي يحتاجها الإنسانُ ذي العقلِ الكبير ليهتدي للأماكنِ التي يريدها.

يرتجف البحارُ من برد ماءِ البحر وهو يفتح البابَ بكل رقةٍ حتى لا ينتبه الصغارُ الذين كان يبحث لهم عن شيءٍ عندما يستيقظون. يشعل النارَ ويَمُدَّ يديهِ ويقرب قدميهِ الباردتينِ منها قبلَ أن يرميَ جسده المنهكَ المبتل على الحصيرِ ينتظر طلوعَ الشمس، يذهب للسوقِ ويبيع ما ظفرت به يداهُ البارحة، يبادله بما يكفي ليومٍ واحدٍ من النقودِ أو أقلَّ أو أكثرَ قليلًا إن ابتسمت له الأيام.

تاريخٌ ماتَ وتاريخٌ ولد، يوم كنتُ صغيرًا كنت أظنها كتلةً وبراميل من المتعةِ، أنتظر والدي على الطريقِ وأبكي حتى يأخذني معه. كان يصدني ويعرف أنها لم تكن سوى كتلةً من التعبِ والقهر وعندما تكون الرحلةُ في نهارِ الربيعِ ربما قال: اركب معي أيها الصغير. كبرنا واختفت المهنُ المضنيةُ وجاءت غيرها في جادةِ الإنسان الذي عليه أن يسيرَ نحوَ الأمامِ مهما أدمى شوكُ الطريقِ قدميه. يشتكي إنسانُ اليومِ من التعبِ ولو رأى صورَ الماضي وما يقاسيهِ ملايينُ البشرِ الساعةَ في الدنيا، فقط ليبقوا بين الأحياء، ربما بكـى لما أعطاهُ أبوهُ من عمرهِ وشكرَ اللهَ كثيرًا.


error: المحتوي محمي