ولو كان بهم خصاصة

من جوانب تجليات العظمة والسمو في شخصية الرسول الأكرم (ص)، هو ذاك التغيير الذي قاده في النفوس، فاستطاع في فترة قصيرة أن ينتشل الناس من وحل الضلال العقائدي والعمى الفكري البصير والانحطاط الأخلاقي، وارتقى بهم في فضاء التوحيد والاستقامة والفضيلة.

وهذه العودة بهم إلى محطة الكرامة والألق الإنساني ليست بالمهمة السهلة التي لا تكتنفها المتاعب والهموم، خاصة أن الناس قد أشربوا في قلوبهم حياة العبث والعربدة وممارسة القبائح، فيحتاج أمر التغيير إلى نفس عظيمة تمتشق الصبر والتحمل بلا كلل، وتمتص كل ردات الفعل الغاضبة والرافضة لنور الحق والهدى، وإلى خطاب راقٍ يمتاز بالحكمة والحوار الهادئ والأساليب التشويقية والإقناعية التي لا تنفر منها النفوس.

لقد صنع منهم رسول الله (ص) نفوسًا متسامحة لا تحمل الغل والحقد لمن أساء لهم يومًا، بل أضحى سلوكهم قبول الاعتذار والصفح عن الزلل، واستطاع أن يجعل الكلمة الجامعة بينهم هي الأخوة في الدين واحترام الآخر وحفظ حقوقه دونما أي اعتداء، فالتدين عنوانه المحبة وصفاء القلوب والتسامح كلغة تسود في علاقاتهم، بعد أن نخرت في نسيجهم الاجتماعي الفرقة والقطيعة والنزاعات والطبقيات.

وأي شيء أعظم دلالة على تحضرهم وترقيهم من تخليهم عن شح الأنفس والأنانية وتبلد الوجدان تجاه آلام وحاجات الآخرين، من تسلقهم شجرة العطاء من منابت الكرم والسخاء وصولًا إلى قمة المجد وهي الإيثار، فمع حاجة أحدهم لمال أو غيره من المتاع والمستلزمات، إلا أنه ما إن يأتيه جاره أو قريبه أو صاحبه طالبًا ذات الشيء، إلا وينبري ويبادر إلى تقديمه بسخاء نفس ورضا وسعادة.

فما أحرى بنا أن نتلمس هذه الصناعة المحمدية في صقل النفوس بخلق العطاء وعدم التخلي عن المحتاج والمكروب في وقت ألمه ومحنته، فيجد في همه من يشاطره المصاب ويحاول بكل ما استطاع أن يفرج عنه، فمظلة التكافل الاجتماعي تعني الاستظلال تحت سقف مد يد العون وتلمس الضعفاء وتقديم المبادرات والبرامج المعينة لهم.

ما يؤلم ويعتصر الفؤاد بحسرة هو الجفاف العاطفي والانحسار الوجداني الذي أصيب به الكثير، فنزعت الرحمة من المقتدر ماليًا فلا يفكر فيما يعاينه من صور البؤس والفاقة التي يعاني منها المحتاج، فمع وجود فائض من ماله إلا أن نفسه لا تسنح بالبذل فيجود ولو بالقليل، بل طغت النزعة المادية والمنفعية والاهتمام المفرط بالذات مع الإعراض صفحًا عما يعانيه من حوله من صور الجوع والحرمان والهموم العاصفة بالآخرين، مما خلق تمايزًا وطبقيات في المجتمع مع بروز حالات الإجرام والسطو ممن لم يتحمل الفاقة.

فإن الأمان المجتمعي هو ما يحافظ على تماسك النسيج الاجتماعي بعيدًا عن أي اهتزازات، وروح العطاء وثقافة البذل تبلسم آلام المحرومين وتخفف عنهم وطأة الحاجة، كما أن البذل المعنوي بتخصيص جزء من الوقت والجهد للمساهمة في حملات التطوع المهتمة بالتنمية المجتمعية، هو من ثمار تربية الأفراد على ذلك منذ الصغر في محيط الأسرة والمدرسة.


error: المحتوي محمي