طرقتُ ثمانينَ سنةً من عمري، قلتُ الحمدُ لله قد بلغتها فمن يقرأ أعمارَ من يموت اليومَ لا يصدق أن عمر النبي نوح (ع) كان أضعافًا مضاعفةً من أعمارنا. ماذا جرى للطبِّ البارع وزوال الأمراضِ التي أماتت مجتمعات وأصابت الكثيرَ بالعاهات؟ أينَ الأكل الذي ننتقي ونجنيهِ من أفضلِ الحقولِ والمروج ونعقمه بأقوى المحاليل التي تقتل كل جرمٍ نظن أن يؤذينا!
هل عليَّ أن أفرحَ أنني بلغتُ الثمانينَ وقد أخذت مني الكثيرَ في طريقها ومسيرها لي حتى صرت كأنني من عالمٍ آخر! أنا بالكادِ قاربتُ الستينَ سنةً وقد تغير مزاجي في كثيرٍ من أزقةِ الحياة، أشياءَ كنت أحبها وأهيم فيها وبها، الآن إما لا أحبها أو لا أستطيعها وصرتُ مثل الذي يقول:
أهمُّ بأمرِ الحزمِ لا أستطيعـه
وقد حِيلَ بين العيرِ والنزوان
في العشرينَ من أعمارنا نملك القدرةَ والوقتَ لعمل ما نفتتنُ به ولكن لا نملك المال،َ وفي الأربعين نملكُ المالَ والقدرةَ ولا نملك الوقت،َ وفي الستين نملكُ الوقتَ والمالَ ولا نملك القدرة، أحجيةُ الحياةِ التي لا تعطينا كُلَّ ما نريد في آنٍ واحد! عاش أحدُ الشعراء مُعدماً مُفِلسًا، وهو في عنفوان شبابِهِ، يريدُ درهمًا فلا يجدُهُ، يريدُ زوجةً فلا يحصُلُ عليها، فلمَّا كبرتْ سِنُّه وشاب رأسُه، ورقَّ عَظْمُهُ، جاءهُ المالُ منْ كلِّ مكانٍ، وسهُلَ أمرُ زواجهِ وسكنِه، فتأوَّه وأنشد:
ما كنتُ أرجوهُ إذ كنتُ ابنَ عشرينا
مُلِّـكْتُـهُ بـعـد ما جاوزتُ سـبعينـا
تطُوفُ بي مـنْ بـناتِ التُّركِ أغْزِلةٌ
مِثلُ الظِّبـاءِ عـلى كُثـبانِ يـبريـنـا
قالوا: أنينُك طـولَ الليلِ يُسْهِـرُنـا
فما الذي تشتكي؟ قلـتُ: الثمانينا
دخل عوف بْن محلم الخزاعي وكان في الثمانين وقد ضعف سمعه على عبدالله بن طاهر فسلم عليه عبدالله فلم يسمع، فأُعلم بذلك، فارتجلَ عوف أبياتاً من الشعر منها:
يا بن الَّذِي دان لَهُ المشرقان
طراً وقد دانَ لَهُ المغربـــــان
إن الـثـمـانيـنَ وبُـلِّـغتُـهـــا
قد أحوجت سمعي إِلَى ترجمان
وبدلـتني بالشطـاطِ الانحنـاء
وكنت كالـصعدة تحـتَ السـنـان
في عَالَمِ اليومِ ليس فقط يحتاج ذو الثمانين سنةً ترجمانًا للسمعِ وعصًا للمشيِ وعقالًا للقيامِ ولكن يحتاج ترجمانَ عقلٍ ليعرف ماذا يقول الناس وكيف يفكرون وكيف يستخدمون الآلة في كل شيء، شتَّانَ بين مشرقٍ ومغربِ. يحتاج ذو الثمانين أن يضربَ رأسه حتى يفهم كيف لا يعيش البشر في سلامٍ وهم يملكون كل شيء، الكبيرُ يتمنى أن تعودَ به ساعةُ الزمن صغيرًا والصغيرُ يتمنى أن يكبُر بسرعةٍ وكلاهما يسأمُ من طولِ الحياةِ ويَملُّها وتَملُّه كما يقول زهير ابن أبي سلمى:
سئِمتُ تكاليفَ الحياةِ ومـن يعِـش ْ… ثـمانينَ حولًا لا أبًا لكَ يسأمِ
أعمارُ البشرِ صناديقٌ مغلقةٌ على أشياء، لا قيمةَ للصناديقِ ولكن قيمتها في الأشياءِ التي نخبئها فيها. نسعد ونشقى في السنين ولكنها تنتهي عندما يأتي السؤال: أين المفتاح؟