المصفوفة

لقد تذكرت، تذكرت، نعم هذا ما حدث لي ولكن لا أعلم متى كان ذلك؟.

كنت أمارس رياضة المشي بصحبة زوجتي وطفليّ، إلا أن سيارة مجنونة داهمتنا وصدمتنا، بعد ذلك أغمي عليّ، ثم استيقظت وسط ظلام دامس، ظلام لا أرى فيه حتى أطرافي، وجهت وجهي في كافة الاتجاهات، باحثًا عن نور يخلصني من هذه الظلمة الحالكة.. لم أجد بصيص ضياء، لكني تحركت ساعيًا للخلاص.. وبينما كنت أمشي شاهدت نورًا من بعيد، فتوجهت نحوه.. سرت إليه حتى وصلته، لم أتردد في التقدم للأمام فبعده الضياء والنور، أما ورائي فليس سوى الظلماء والعتمة، ولكني وجدت نفسي على شفا هاوية سحيقة، فتسمرت مكاني، إلا أن الأرض اهتزت بي فسقطت في الهاوية.. ثم استيقظت فوجدت نفسي مع أمي، هذا ما جرى لي.

ولكن أمي! لماذا لم تحدثني بما جرى لي؟ سأذهب إليها فورًا.

– أمي، أمي، أين أنت؟

بحثت عنها فوجدتها جالسة تخيط فستانًا كعادتها.. جلست بالقرب منها..

– أمي أرجوكِ اتركي هذا الآن، أريد أن أتكلم معكِ في أمر مهم جدًا.

نظرت لي بمقلتين متوهجتين ثم أعرضت عني لتستأنف حياكته وكأنها لم تسمعني…

قمت من أمامها وقد تملكني الغضب.

– أمي لماذا لم تذكريني بأنه قد وقع لي حادث مع زوجتي وطفليّ؟

نظرت لي ثم انشغلت بعملها مرة أخرى..

– أين هم الآن؟

لم تلتفت لي، وسكتت سكوتًا مطبقًا..

ازداد غضبي.. فقمت بالتجول في أنحاء المنزل عله يبرد، إلا أني كلما نظرت لها وهي تخيط الفستان وتتجاهلني يزداد غضبي اشتعالًا، انتبهت إلى بعض قطع الأثاث، فأمسكت بها وبدأت أحطمها بعنف وأنا اشترط عليها أن تجيب عن سؤالي إن كانت تريد المحافظة على أثاث منزلها! إلا أنها ظلت كما هي!

لم تكترث بي وكأني غير موجود أمامها!

تعبت من تكسير الأثاث، لم أستطيع التحمل أكثر! سقطت على الأرض وأنا أبكي..

الآن ليس لي إلا أن أرجوها أن تخبرني عن مصيرهم، لعل قلبها المتحجر يحن علي..

بعد سكوني وهدوئي وقفت ونظرت لي بابتسامة وقالت لي بكل برود:

– لقد انتهيت! ما رأيك؟ أليس فستانًا جميلًا؟

دنوت منها وأنا بالكاد أمشي… لمسته بيدي وقلت لها:

– نعم إنه عمل رائع يا أمي.

احتضنت الفستان بدلًا مني ثم وضعته على الأريكة، ثم نظرت لي بوجه تصلبت ملامحه بسرعة وقالت:

– حبيبي.. لقد وقع لكم حادث شنيع بحق، ولكن زوجتك وطفليك نجيا، وهم الآن بخير.

– فأين هم؟ خذيني إليهم.

– لا أستطيع، بل مستحيل!

– لماذا؟

أدارت لي ظهرها، وكررت سؤالي مرة أخرى ولكنها لم ترد، رجوتها بأن تخبرني لماذا؟… التفتت لي مرة أخرى ولكن هذه المرة بوجه أصبح مخيفًا، وكأنها تحولت إلى امرأة مخلوقة من الجحيم.

وجهت عينيها نحو عيني وثغرها نحو ثغري ثم قالت بصوت جهوري مخيف:

– لأنك ميت، ميت، ميت.

ابتعدت عنها خوفًا ورعبًا… وقلت لها:

– مستحيل، أنا حي، حي.

ولكنها ردت علي بصوتها الجهوري:

– بل ميت وأنا وكل من حولنا أموات، إننا نعيش في عالم ما بعد الموت.

لم أستطع تصديق ما سمعته منها، وضعت يدي على رأسي محاولًا تفادي انهياري التام.

إلا أنها استمرت في حديثها المهول بصوتها المخيف:

– أنت ميت ونحن أموات وسنظل هكذا إلى الأبد.

لم أستطع التحمل أكثر من ذلك، فوقعت على الأرض مغشيًا عليّ.

***

فتحت عيني، فوجدت نفسي نائمًا على سرير أبيض، وإذا برجل مرتديًا بدلة رسمية رمادية يتقدم نحوي.. سرعان ما دخلت أمي لتحتضنني وتهنئني بالسلامة ثم وقفت بجانبه لينظرا إلي كلاهما بابتسامة وحنو..

وضع الرجل يده على يدي وقال لي: أنا أحد أطباء هذا العالم، وأود أن أخبرك بأنك بخير وستكون على ما يرام.

سألته بلهفة: أحقًا أنا ميت؟ أقصد جميعنا موتى؟!

ابتسم ثم أجاب قائلًا:

– ما قبل الموت حياة وما بعده حياة أيضًا يا بني.

– ولكن هذه الحياة شبيهة بحياتي السابقة؟!

– ومن قال لك بأن الحياة في عالم ما بعد الموت مختلفة عما قبله؟! إنها أوهام زرعت فينا ليس إلا، هنا حياة لا تقل روعة عن حياتنا السابقة.

انسكبت الدموع من عيني مجددًا.. أمي جلست بقربي واحتضنتني.. رجتني ألا أبكي وإلا فإنها سوف ترحل إلى مكان بعيد ولن أتمكن من رؤيتها مجددًا.

وعدتها بذلك فأنا أحبها وهي المخلوق الوحيد الذي بقي لي في هذا الوجود.

عدت إلى منزلي، حاولت أن أعيش كبقية الناس هنا، ولكني كلما تذكرت زوجتي وطفليّ شعرت بكتمة شديدة في صدري ولا ألبث أن أدخل في نوبة بكاء شديدة.

حاولت أمي أن تخفف حزني ولوعتي، تظاهرت بأن أحزاني خفت قليلًا إلا أنها أضحت بركانًا في قلبي ودموعي طوفانًا في عيني.

في تلك الليلة وعندما نامت والدتي، جلست أقلب قنوات شاشة التليفزيون الذي كان فارغًا منذ أن وعيت بوجودي في هذا العالم، ولكن هذه المرة ما إن قلبتها حتى شاهدت زوجتي وطفليّ وهم يلهون في الحديقة.. لم أصدق ما رأيته.. اقتربت من الشاشة، تمنيت لو كنت أستطيع الولوج فيها لأكون بينهم!

رأيت زوجتي وهي تلعب مع ولديها بمرح.. لم أفهم كيف لي أن أراهم من خلال هذه الشاشة؟

قضيت معظم ساعات الليل أشاهدهم بشغف وولع.. كلما رأيتهم يلعبون ويضحكون انهمرت دموعي حزنًا على فراقهم.

في اليوم التالي أخبرت أمي، ففتحت الشاشة ولكنها لم تشاهد شيئًا، فذهبنا للطبيب، الذي رحب بنا، حكيت له ما رايته بالأمس، كان يستمع لي بإنصات وابتسامة، ما إن انتهيت من كلامي حتى رد علي قائلًا:

– أنت وحدك من تستطيع أن ترى أحباءك من خلال هذه الشاشة، أنت محظوظ يا بني، القليل من الناس هنا من يمن عليه القدير بهذه المنة العظيمة، منذ اليوم يمكنك أن تراهم وتطمئن عليهم في أي وقت تشاء.

انتابتني سعادة ونشوة عارمة.. عكفت على مشاهدتهم أيامًا وليالٍ، رأيتهم في العديد من أحوالهم وهم فرحون وسعداء، يشوب أوقات سعادتي الحزن والكمد كلما تذكرت تلك السيارة القاتلة التي باغتتنا وفرقت شملنا، مت وابتعدت عنهم، أبكي كل برهة وأخرى ولكن ما خفف عني حزني رؤيتي لهم من خلال هذه الشاشة الصماء.

تضاءل حزني، وزهد ألمي، بعد أن اطمأن قلبي على عائلتي وأنا في هذا العالم، إلا أن الرب كان قد أعد لي منة أخرى من مننه التي ينعم بها بعض سكان هذا العالم.

ذات ليلة لم أستطع النوم، فتجولت في أنحاء المنزل، فصعدت إلى السطح، حيث هدوء الليل وتلألؤ النجوم، رأيت بساطًا يتوسطه جهاز راديو! تعجبت من مشاهدتي لهذا الجهاز في هذا العالم، جلست وبدأت أوجه موجاته على أمل أن التقط إذاعة ما ولكن من دون جدوى فأنا لست في عالم الدنيا.

تركته برهة ثم أمسكت به مرة أخرى، حركت المفتاح على الموجة الطويلة ووجهت المؤشر، فجأة سمعت صوت أحد ابنائي وهو يتحدث إلى شقيقه! أصابني الذهول في بادئ الأمر، ولكني تمالكت نفسي وبدأت أنصت له، كان يلعب مع شقيقه لعبة الاستغماء، وقد اختبأ عنه، فخطرت لي فكرة أن أكلمه عله يسمعني.

كلمته قائلًا: حبيبي كيف حالك؟

أجابني بعد لحظات: أبي! أنت أبي!

قلت له والدموع تنهمر مني: نعم أنا والدك يا حبيبي.

كاد الجهاز يسقط من يدي، انتابتني آلام شديدة في كافة أنحاء جسدي، فاضطررت للاستلقاء على البساط علها تخف قليلًا.. واصلت التحدث مع فلذة كبدي فقلت هل:

– كيف أنت يا حبيبي؟

رد علي بلكنته الطفولية المتميزة:

– أنا بخير يا أبي؟ ولكن أين أنت؟ لما أنت غائب عنا؟ لماذا لا تأتي إلينا لنعيش سويًا؟

انهمرت دموعي مرة أخرى ولكني أمسكت بكائي لئلا يسمعه ولدي..

– سآتي عما قريب يا بني ولكن حدثني عن أخيك وأمك؟

– إنهما بخير، هل تريد أن تتحدث إليهما؟

– نعم أرجوك.

ذهب ابني مسرعًا لوالدته، قال لها بأني أريد التحدث معها! ما إن سمعت بذكري حتى شعرت بأن الحزن قد داهمها.. احتضنته قائلة له بأني مسافر في رحلة طويلة ولن أعود إلا بعد سنوات طويلة!.. ولكنه أقسم لها أنه كلمني، إلا أنها تجاهلته.. حاولت أن أكلمها ولكنها لم تسمعني.. طلبت منه أن يأتي بشقيقه لأكلمه ولكنه لم يسمعني أيضًا، فاكتشفت أن لا أحد منهم يستطيع أن يسمعني أو يكلمني غيره.

لقد أصبح بمقدوري الآن عن طريق جهاز الراديو التحدث مع أحد أفراد أسرتي، ومن خلال الشاشة أستطيع أن أشاهدهم جميعًا، فارتاحت نفسي، وانطفأت حرقتي، وسكن ألمي، وتضاءل حزني.

عدت لممارسة حياتي وتطلعت إلى أن أكون أفضل في هذا العالم بعد أن اطمأننت على حياة عائلتي.

في يوم من الأيام استيقظت من النوم كعادتي بعد شروق الشمس، وجدت كل شيء حولي وقد بدا في هدوء تام لم أعهده من قبل، ناديت على أمي ولكنها لم تكن في المنزل.. خرجت للفناء فكان الهدوء المريب سائدًا.. عدت للداخل وفتحت الشاشة ولكن لم أتمكن من مشاهدة أسرتي، فتحت جهاز الراديو فلم يظهر لي صوت ولدي، لم أتمالك نفسي فخرجت للشارع فوجدته فارغًا.. مشيت أكثر في الطرقات فرأيتها خالية على غير عادتها، تساءلت في قرارة نفسي عن السر وراء هذا الهدوء الغريب وأين ذهب الجميع؟

انتابني القلق الذي سرعان ما تحول إلى خوف.. مشيت في الطرقات وأنا أنادي على أمي بأعلى صوتي.. مشيت هائمًا على وجهي، لا أعرف من أين وإلى أين أمضي؟ مشيت عدة ساعات وأنا في خوف شديد… التفت يمينًا وشمالًا، أتطلع في مختلف الجهات لعلي أرى أثرًا لأي أحد، حتى السماء بدت لي فارغة من الحياة… فجأة سمعت أصوات أناس كثيرين آتية من بعيد، فتتبعتها حتى وصلت إليهم.. شاهدت حشدًا من الناس يدخلون ويخرجون من بوابتين كبيرتين، قلت في نفسي لعلها بوابة دخول وخروج من هذا العالم.. مضيت نحوهم بأقصى سرعتي.. وجدت الناس وهم يدخلون ويخرجون من المقبرة!.. كيف تكون في هذا العالم مقبرة؟ انتابني الفضول الشديد فدخلتها مع الداخلين، تطلعت في مختلف الاتجاهات على أمل أن أجد أحدًا أعرفه، فشاهدت الطبيب الذي يشرف على علاجي يسلك إحدى الطرقات، ناديته، فتوقف والتفت نحوي ثم عاد لاستنئاف سيره، لحقت به وأنا أناديه ولكنه لم يجبني، حتى توقف بقرب ثلاثة قبور وأخذ يصلي لأجلها، وقفت بجانبه، نظرت إليها، فوجدتها قبور زوجتي وطفليّ! شعرت بيد على كتفي فإذا هي يد والدتي! وما لبث أن وضع الطبيب يده هو الآخر على كتفي الثاني.. لم أتمالك نفسي، تغرغرت عيناي بالدموع وبكيت بحرقة، ولكنها لم تكن كسابق عهدها، كنت متماسكًا وقادرًا على تحمل المأساة التي مررت بها، باغت الطبيب بكائي قائلًا:

– كانت رحلة شفاء طويلة وقاسية يا بني، ولكنها تكللت بالنجاح.

أما أمي فقالت لي:

إنهم يحبونك يا بني، إنهم أحياء في عالمهم البديع، وسوف تلتقي بهم يومًا، ولكن عليك الآن أن تعيش حياتك كما كنت تعيشها من أجلهم، فذلك سيسعدهم يا ولدي.

خرجت من المقبرة وأنا موقن بأن أحبتي أحياء وأن ما يفصلني عنهم ليس الموت بل هذا الجسد، وسوف أتخلص منه يومًا لألتقي بهم وأكون معهم إلى الأبد.


error: المحتوي محمي