النواسة

يجود علينا الزمانُ بأشهرٍ قليلةٍ كُلَّ سنةٍ بدءًا من تشرينِ الأول حيث تستعيد الطبيعةُ روحها بعدما كادَ الصيفُ الحارق أن يفنيها. أشهرٌ قليلة فيها تتحررَ أجسامنا من طاقتها الكامنة ولكن هذا يستوجب علينا أن نخرجَ من مخبئنا متى ما استطعنا. بين الطبيعةِ والمشي يستعيد الفكرُ والعقلُ والجسمُ توازنهمْ في بساطةِ الطاقةِ المتحررة في المشي. من جمالِ هذا الاستسلام لعناصرِ الطبيعة ظهرت مدارسُ الفلسفة “الحكمةِ المشّائيّة” التي  أصحابها أتباع أرسطو حيث كان يلقي عليهم تعاليمه وهو يمشي.

الاستسلامُ للطبيعة يحررنا من الاستسلامِ لمباضعِ الجراحِ الذي يغلق ويكمم بطوننا المنتفخةَ بالأكلِ الذي جلبته لنا المدنية، بعد أن كنا نأكلُ لنعيشَ أصبحنا نعيش لنأكل. لا بأسَ بالأكلِ ما لم يقربنا من البهائمِ التي تملأ بطونها وتنطح وتقتل البهيمةَ الأخرى حتى يجتمع لها من الأكلِ ما تريد وما لم يجلب لنا العللَ والأمراض.

يومَ كنا صغارًا في الحقولِ بين أشجارِ النخيل التي استسلمت لقدرها نلعبُ النواسة، طفلينِ واحدًا يجلس في الطرفِ الأعلى والثاني في الطرفِ الآخرِ الأسفل. يهوي الذي في الأعلى للأسفلِ إن استطاعَ بثقلِ جسمهِ وحينها يكون الطفلُ الآخر في الأعلى، وهكذا. ليست النواسةُ إلا رمزًا صغيرًا تمثل اعتدالَ الروحِ والجسد في نقطة الكمال، إذا زادَ ثقلُ الروحِ اختلَّ الجسدُ وإذا ثقل الجسدُ اعتلت الروحُ واحتاجَ النظام إعادةَ الاتزانِ الذي يجعله أقربَ للإنسان.

كما في كل الأمور “لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان”، من يصل الثلاثين سنةً أو أكثرَ من العمر تقوى روحه وعقله ويصلان الكمالَ ولكن قواهُ تتناقص ويصبح فقدان الوزن أكثر صعوبةً من سن الصبا فلا بد لنا أن نحفز أجسامنا لتحافظ على بعض قدرتها وقوتها. نخسر 1% من حجمِ كتلة أجسامنا العضلية بعد ذلك السن ويزداد وزن الدهون وتقل قدرتنا على التخلص منه.

في هذه الأشهر القليلة نستطيع، إن لم يكن طوالِ السنةِ، أن نستعيد نشاطنا في ممارسةِ مقاومةِ فقدانِ القوة في نظامٍ خاصٍ بنا يعيننا على الحفاظِ على كتلةِ العضلاتِ طوال حياتنا حتى وإن صرنا في الثمانيناتِ أو التسعيناتِ من العمر فلن نحتاج تلك العصا.

تحتفظ أجسامنا بذاكرةٍ لا نستطيع أن نجعلها تنسى بسهولة فتراها تعاقبنا في الكبر إذا لم نعتن بها في الصغر وتعتاد على ما عودناهَا فإن ركنا إلى السكونِ أحبته وإن أكثرنا من الأكلِ استساغته! في هذه السنة كان اليوم هو أولَّ يومٍ نرى فيه المطر يغسل كل ما علق بالطبيعة من الصيفِ الحارق. تذكر في المطر يومَ كنت صغيرًا يحملك أبوك على كتفه ويبلل شعركَ المطرُ كم كان مفرحًا ومن ثم مشيتَ أنت وأصدقاؤك تحتَ المطر في صباك، عد لتلك الأيام إن استطعت!


error: المحتوي محمي