قمع الأفكار والرؤى

يُعبر البشر عن آرائهم وأفكارهم إذا أتيحت لهم الحرية الثقافية، فكل إنسان يحمل مُعتركًا من المعرفة التي تتفاوت مستوياتها من فرد لآخر، البعض يُجيد المعرفة فيما تخصص فيه أثناء تعليمه الدراسي وما تلقفه من الصحبة، وآخرون مما أكسبتهم الحياة من تجربة خلال انخراطهم في العمل والاجتماعات العائلية وعلى مستوى العلاقات العامة وغيرها، وبصرف النظر عن نوع الرأي أو الفكرة التي يعتز بها صاحبها واختلافنا في قبولها أو ردها، فإن الفرد يتشبث بما لديه ويدافع عنها ويبث حسناتها ويلح برصانتها ومنهجيتها.

وهذه طبيعة متوفرة لدى أغلب الناس، وخلافه قد يكون أسبابه نفسية ويتضح لنا هذا السلوك البشري من خلال المتابعة بشكل عام في مواقع التواصل الفعلي أو الإلكتروني، الكل يبدي ما لديه من مخزون معرفي ويطرح قضايا شتى فيثير الشأن العام ويدفع بالمتابع للنقاش أو التعرف على فكر ورأي مغاير له.

ورغم أن الكل يملك رأيًا وفكرًا لكن ليس بالضرورة أن تكون بعمق الحاجة الإنسانية للمجتمع وقد يكون مترهلًا لمحدودية الرؤية وصفاقة المبدأ، وهناك من يهدف لأن يفتل عضلاته بجدالات عقيمة نتيجتها من هو الرابح في ذلك النزال؟ وليس بغرض رفع القيمة المعرفية للكل أو توجيه العقل للتفكُر! لذلك نجد أن البعض يُلجم مناقشيه بضيق أفقه ويهمش ويقصي من لا يوافقه، قد يكون له الحق في الإقصاء حال التهجم عليه بما لا يتوافق مع الطبيعة الإنسانية، فالأفكار لا تقمع إنما تناقش بطرق علمية وموضوعية.

ويتطرق السيد محمد حسين فضل الله لمفهوم الحرية بتناسق فلسفي دقيق فيقول: “اعط الحرية للباطل تحجمه، واعط الحرية للضلال تحاصره، لأن الباطل عندما يتحرك في ساحة من الساحات، فإن هناك أكثر من فكر يواجهه ويمنعه من أن يفرض نفسه على المشاعر الحميمية للناس، فيكون مجرد فكر قد يقبله الآخرون وقد لا يقبلونه، لكن إذا اضطهدته ومنعت الناس أن يقرؤوه ولاحقت الذين يلتزمونه بشكل أو بآخر، فإن معنى ذلك أن الباطل سوف يأخذ معنى الشهادة، وسيكون الفكر الشهيد الذي لا يحمل أية قداسة للشهادة؛ لأن الناس يتعاطفون مع المضطهدين سواء مع الفكر المضطهد أو الحب المضطهد أو مع العاطفة المضطهدة”.

ويمكن ملاحظة ما أشار إليه السيد فضل الله من خلال مواقع التواصل حينما يتعامل البعض مع بعض الأفكار والرؤى المنحلة أو غير المقبولة اجتماعيًا أي تخالف المعهود بأسلوب الشتم والبذاءة اللفظية، ولم يتبع الموعظة الحسنة والنقاش العلمي المنفتح المتمتع بالوعي، هنا سيأخذ الفكر أو الرأي الباطل دور المضطهد وسيتعامل الناس وفق إدراكاتهم العاطفية.

ويتابع السيد فضل الله مشيرًا إلى أن من يجد انتماء حقيقيًا وواضحًا لفكرته أي يثق بعدم بطلانيتها أو ضلالتها لأنه يملك حُجةً بليغة ومنطلقًا إيمانيًا وفكريًا قويًا، فيقول: “إنني أتصور أن الإنسان الذي يملك قوة الانتماء لفكرة، هو إنسان لا يخاف من الفكر الآخر، لأن الذين يخافون من الفكر الآخر، هم الذين لا يثقون بأفكارهم، وهم الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عنها، لذلك ينطلق كل إنسان ليدافع عن فكره في مواجهة الآخر، ولن تكون النتيجة سلبية لصاحب الفكر في هذا المجال”.

فحينما يكون صاحب الفكرة أو الرؤية مؤمنًا ومتيقنًا من قوة ما لديه فلن يستخدم أي أساليب ملتوية في إظهار فكرته وتِبيانها للناس، بخلاف صاحب الفكرة أو الرؤية الضعيفة فسيستخدم ما يؤكد ضعف ما يحمله من قمع أو منع أو إلغاء لأنه يخشى من قوة الفكر الآخر أن تمتد وتتوسع وتستهوي العقول المتوقدة.


error: المحتوي محمي