يذكر الأدبُ الشاعرَ علي بن الجهم عندما يروونَ حكايتهُ الطريفة حين وقفَ لأولِ مرةٍ بين يدي الخليفةِ العباسي المتوكل، مادحًا إياهُ، فلم تسعفهُ قريحتهُ بأجملَ من الكلبِ والتيسِ والدلو، مفرداتُ الصحراءِ التي تستوجب الاحترامَ والمدحَ لدى من سكنَ الصحراءَ وسكنتهُ فبدونها لن تستقيم حياته:
أنتَ كالكلبِ في حفظكَ للودِّ
وكالتيسِ في قراعِ الخطوبِ
أنت كالدلوِ، لا عدمناكَ دلوًا
من كبارِ الدلا، كبيرَ الذنوبِ
لم يعجب الحاضرين في مجلسِ المتوكل مفرداتُ الشعرِ التي هجروها لعيونِ مدينةِ بغداد وألقها، لاموهُ لكنَّ المتوكل لم يغضب وأمرَ للشاعرِ بدارٍ جميلةٍ على شاطئِ دجلة، لها بستانٌ بديع، يأتيهِ نسيمُ الربيعِ الرقراق يغذي روحهُ ويعمل على تشذيبِ خياله. صار ابن الجهم يخرج إلى محلاتِ بغداد يُـطالع الناسَ ومظاهر مدينتهم وحضارتهم وترفهم، أقام مدةً من الزمنِ على هذه الحال، والعلماءُ يتعهدون مجالسته ومحاضراته ثم استدعاهُ المتوكل وأنشدَ ابنُ الجهمِ قصيدتهُ الجديدةَ من أرقِّ الشعر وأعذبه ليس فيها مكانٌ للكلبِ أو التيس، مطلعها:
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ
جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن
سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمرًا عَلى جَمرِ
كل ما تخرجه النفسُ الإنسانية من إبداعٍ تحكمه الفصولُ والطبيعة والمجتمع. أدبُ ونتاجُ فصلِ الصيفِ في جفافه يشذ عن نتاجِ الربيع والشتاء والخريف في رقته وما تسمح له المجتمعات بالطيران خارجَ أسرابها أو السباحةَ عكس تياراتها، ليس فقط الشعرَ والروايةَ والأدبَ والفن ولكن الإبداعَ في العلوم بكليتها. كل مبدعٍ يشبه الخيلَ السريعةَ العدوِ في حاجتها لميدانِ جريٍ والميدانُ هو المجتمعُ بعد الطبيعة. أن اصطدمت الخيلُ في موانعِ الطبيعةِ والمجتمع كانت نهايةُ غلبتها وربما حُكم عليها بالموت.ِ
أدبُ وعلومُ الغربِ والشرق وإبداعاتها يحكمه استقرارُ بيئةِ المبدعِ ومدى انشغالِ المجتمعاتِ بتطويرِ ذاتها ومبدعيها بدل أن تضع في أيديهم قيودًا يلازمونَ بعدها صمتهم أو خيبتهم. تصبح البيئةُ طاردةً للإبداعِ والخيال عندما يشتغل الفردُ بمفرداتِ الحياةِ الأساسية والبسيطة فلا يستطيع بعدها الإبداع أن يرفرفَ بعيدًا أو يحلقَ خارجَ حدودِ الخيال والفكر المعتاد.
يصل الإبداعُ إلى قممهِ عندما يحتضنه الناس ويفتنوهُ مثل الذهب بنارِ النقاءِ حتى يخلصَ من الشوائبِ وينحط الإبداعُ إلى الحضيضِ عندما ينفوهُ ويهجروهُ دونَ أن ينظروهْ. ومع غياب الإبداع والمبدعين تتحول الحياة إلى مأساةٍ يصبح فيها “السكوت من ذهب”. يولد كل الجمالِ في عالمنا حين نشط في خيالنا وإبداعنا ونأخذَ معنا من نستطيع إلى ذلك العالم، فصاحب الخيالِ يعيشُ عدةَ مراتٍ ويعيش غيره مرةً واحدة!