يتعرى فكرُ المرءِ أبشعَ مما يتعرى جسدهُ عندما يبوح بأسرارهِ في الورقةِ أو يرتقيَ أعواد المنابر دونَ أن يدري والناسُ لا يقولونَ له: انكشفت،َ بل يتصدعونَ عنهُ في صمت. لابدَّ لمن يرى نفسهُ يكتب شيئًا كُلما رأى ورقةً وقلمًا أو يقول شيئًا كلما اجتمعَ الناسُ تحته ولا يرى الحكمةَ في الصمتِ أن يجدَ له البديلَ في الصحراءِ، يبوح لها بأسراره، يُخرج وينفث خلجاتِ صدرهِ في البوادي يحكيها في حفرٍ عميقةٍ دون من يسمع أو يرى.
في عبوديةِ الكتابةِ وبيعِ الأفكارِ في القرطاسِ لا يرى البائعُ الناسَ ينفضونَ من حوله أو يسمعَ أنفاسهم عندما يهربونَ بعيدًا عنه فيرى نفسهُ عبدًا للقلمِ في كُلِّ وقتْ ومن يتكلم في الناسِ يراهم تحته وربما تأتيهِ رسائلهم في نظراتِ عيونهم وتململِ حضورهم: جاءَ رجلٌ ضيفًا في إحدىِ القرى وخطبَ فيهم فاشتاقَ الناسُ لحديثه وتجمهروا حوله وكما هي الدنيا في كُلِّ جديدٍ لذة لكن اللذةَ لم تدم لهُ طويلاً وانفضَّ الناسُ عنه حتى صاروا يسمعونه وهم يقفونَ في الطريقِ دون أن يدخلوا. لم يفت الضيف لوعة ومرارة ذلك المنظر فقال:َ “هي الدنيا إذا أقبلتْ أقبلتْ وإذا أدبرتْ أدبرتْ” ولم يأتِ القريةَ بعد تلكَ المرة.
نحن الثرثارونَ لا بدَّ أن نصمتَ ونستمعَ كثيرًا. من لا يجيد الصمتَ عليه الخروج في الصحراءِ والكتابة ما شاءَ في الرمال، لا ورقَ ولا قرطاسَ ولا من يقرأ، ومن عليهِ الكلام أن ينتظرَ تاليَ الليلِ عندما تتجمع الأرواحُ الساكنةُ في الفلاةِ ويرفع عقيرتهُ بما شاءَ يحمل الريحُ صوته دونَ أن يسمعهُ أحد. نحن الثرثارون لا نستطيع أن ننقلَ المعارفَ أو نحلَّ المشكلات، ما زادَ حنون في الإسلامِ خردلةً….ولا النصارى لهم شغلٌ بحنونِ، جاءَ زمنُ الصورةِ والحركة والمعرفة الشاملة وماتَ القراءُ البسطاء دونَ أن ندري. نظن أننا نملأ الفضاءَ بأشياءَ لطيفة وجميلة يتمايل معها الناسُ في مخادعهم وهم قلبوا الصفحةَ عنها في خضمِ الهمومِ والمشاكلِ التي تتصرف فيهم، اغفر لنا وسامحنا يا رب.
الفارحُ بالكتابة فقط من يكتب، والفارحُ بالخطابِ من يخطب ومن لا يستطيع أن ينكتَ الأرضَ ويبدي لها أسرارهُ، إلا أن يكونَ عظيمًا يطلبه الناسُ، ففي الصحراءِ والربيعِ سعةٌ للثرثارين! يهزأ الشبابُ بأفكارنا، إن سمعوها أو قرأوها أصلًا، أفكارٌ لا تأتي بوظيفةٍ أو رسمَ خطوطِ المستقبل أو بواعثَ على السكينةِ أو حتى طرفة، هي صناديقٌ فارغةٌ يركلونهَا بأقدامهم كما يركلونَ مشكلاتهم وبعضَ أمانيهم! اخرجوا أيها الثرثارون واقرأوا أنتم ما كتبتم، حبذا لو خرجتم بعد منتصفِ الليلِ حتى لا يراكم الناس ولا يقولون لكم وداعًا.
إلا أن تكونوا حراسَ هياكلِ المعرفة وتستطيعَونَ إنتاجَ الوعيِ والفكر الذي قِبلتُهُ الإنسان الآخر وتقديمه للأجيالِ في وعاءٍ مليءٍ بالحلولِ العقلانية في لغةٍ ساميةٍ حتى يصبحَ الفكر الجديد الذي يمشي على أرضِ الواقعِ أفعالًا لا كلامًا يراهُ الناسُ ثم يوصدونَ نوافذهمْ وأبوابهمْ دونه!