من الانقباض إلى النبض

لست مبالغًا حين أقول: إن العلاقة بين الإبداع وكره الناس غير المبرر علاقة طردية تزداد مع النمو وتقل مع النقص.

كثيرٌ من المبدعين أو العصاميين من ميسوري الحال من أهل الدين والخلق والفضيلة؛ غير أنهم محل استهجان، وهمز، ولمز، وتجاهل، وتسقيط في مجتمعاتهم الخاصة والعامة؛ وممن لا قيمة لهم في أغلب الأحوال.

صحيح أن عجلة إبداع المميزين لا تقف عند أي سببٍ كان؛ فما بالك حين تكون هذه الأسباب تافهة، وخارج دائرة الدين والخلق..

هذه الأسباب ذاتها يحولها المبدعون إلى وقود يواصلون به مسيرتهم بعزيمة لا نظير لها.

الغريب في الأمر؛ أن الكثير من ضحايا المجتمعات من المميزين كانت لهم أيادٍ بيضاء بحجم السماء.

شخصيًا لم أقف على علة فعلية لهذه الأمراض المجتمعية سوى ضعف النفوس الناجم عن ضعف الآداب الروحية والتربوية للإنسان.. والبعد عن شريعة السماء المتمثّلة بمحمد وآل محمد.. فضلًا عن التاريخ المظلم للبعض في سني الطفولة والمراهقة.

إن مد جسور التواصل مع المبدعين أو ميسوري الحال، والتعاون معهم، وتقديرهم بما يليق بعقولهم وإبداعهم وخدماتهم المجتمعية، واحترامهم في حضورهم وغيابهم يعود بمنافع لا عد لها ولا حصر.

ومن خلال قراءتي الشخصية لبعض الناس، واستفهامي المباشر من بعض المبدعين في مجتمعاتهم وجدت أن ذلك قد يكون ظاهرة اجتماعية جديرة بالدراسة.

شاعرٌ عملاق يقول: حين أرغب أن يتداول أرحامي قصائدي لا أضع اسمي عليها.

وروائي يصرّح بأن حدة النقد تنخفض بل تكاد تنعدم حين لا يجدون اسمي على الرواية.

وكاتب يقول: تجنبت الكتابة حتى في الخواطر والهمسات الأدبية المحضة لأنها أشعلت النار في القلوب المريضة.

وطبيب لا يتطرق إلى شهاداته ودراساته – ولو عفو الخاطر – حتى لا يحترق المقربون حسدًا.

وعصامي بنى نفسه بنفسه ليجد سهام الحقد كَرَشّ المطر صباح مساء..

لم تقف هذه الظاهرة عند حد؛ فرجال الدين الشرفاء، والموهوبون والأذكياء ليسوا بمعزل.

شنّ البعض على بعضهم حروبًا نفسية وإسقاطات أشد ضراوة من الحروب العالمية تحت عناوين لا تنطلي حتى على عقول المجانين..

قُطعت صلاة كانت أنموذجًا يغرد به الزمن؛ لا لشيء سوى هوى النفس.

حتى الأرزاق حاربوها؛ بالطعن والقذف والبهتان.. وعلى ذلك فقس الكثير.

ولو تأملنا في هذه الظاهرة وقمنا بدراسة محضة على هؤلاء المرضى؛ لوجدناهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وأنهم يَرَوْن أنفسهم شرفاء أطهار براءتهم من الأمراض القلبية كبراءة الذئب من دم يوسف؛ غير أن الحقيقة المحضة هي: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ﴾.

وعليه؛ لو تجرد الإنسان من ذاته وكان موضوعيًا تمامًا في أحكامه وتعامله؛ لراجع الكثير من وجهات نظره، وصحح العديد من قناعاته وأفكاره، وأراح نفسه وأهله ومجتمعه، وتقرب من المبدعين أو المتميزين ليحول طاقاته السلبية إلى طاقات إيجابية تملأ الخافقين خيرًا وحبًا وجمالًا.

وبالتالي تتحول انقباضات القلوب المريضة إلى نبضات حب وشوق ودعاء وفخر عند كل جميل.

وخلاصة القول: إن المبدعين يفترشون الحب، ويلتحفون الطهارة، ويشربون الرحيق المختوم، تظللهم أجنحة الملائكة ولكن عند أولي الأبصار.


error: المحتوي محمي