لحظات سرحان يأخذه الخيال في جولة استعراضية لأمر يمس شغاف قلبه، مواقف من العهد الماضي البائد لم تستطع رياح الحاضر التي أخذته بعيدًا عن زمن غابر على نسيان أو اختفاء بعض المشاهد من ذاكرته الماثل فيها جرح غائر، ذكريات مؤلمة يبقى بين أحضانها لا يفارقه شعور بالأسى والحزن على أوقات وجهود بذلها، لم تقابل إلا بالجحود والغدر!
والسؤال المهم: هل يمكن لتقادم الأيام وبعد الزمن الماضي مسح الجروح من النفوس، أم أنها تبقى عالقة وحاضرة يستذكرها بين الفينة والأخرى؟!
سؤال ليس من السهل الإجابة عنه مع اقتصار الإجابة على الإثبات أو النفي أو التمييز بين موقف وآخر.
هناك من يرى أن الألم النازف لا يمكنه أن يلقى بنفس الدرجة من التفاعل والحضور والأذى اللاحق به، ففي أثناء اكتشاف غدر الصديق أو خيانة الزوج أو زيف مشاعر الصاحب، لا يمكنه – وهو يعاني هول المفاجأة – أن يسامح أو ينسى أو يتجاوز، ولكن بعد مرور فترة زمنية وانشغاله بتحقيق أمانيه وأهدافه في الحياة وتكوين علاقات جديدة، قد يقال: إن الزمن في تغير مشاهده كفيل بمحو ما آلمه في الماضي، وإحلال لحظات باسمة تجدد ثقته بنفسه.
وهناك من يرى الحزن الماضي يقبع في اللا شعور، فينغص عيشه الحاضر بما لا يستطيع نسيانه مهما أوتي من قوة التسامح والصفح، وهل الكأس الزجاجي بعد وقوعه على الأرض يمكن إصلاحه؟
فقواه النفسية والعاطفية أضعف وأدعى من تحمل صفعة الزمن من أقرب الناس إليه، والجرح النازف لا يمكن بلسمته مهما تقادم الزمن وبلي عهده، وكل ما يسطر من كلمات رقيقة في فضاء الخواطر ليست إلا وهمًا كبيرًا نواسي به أنفسنا، فالإساءة إليه من قريب إلى قلبه لا يمكن تبريرها أو التأسف عليها، فقد كشفت عن قلب أسود تمتزج فيه مشاعر الكره والأنانية، وتلك الثقة الممنوحة له لا يمكن بناؤها مجددًا بعد انهدام كيانها، وحلول الحب الجديد هو ما ينسي الآلام ويمحوها من الذاكرة، هي فكرة لا يصدقها الواقع، فالكلام شيء والحقيقة شيء آخر.
وهناك من يفرق بين ألم وآخر، فهناك ما يتلاشى كشائبة في نهر جار لا تبقى صامدة أمام تياره الجارف، فذاكرتنا يصيبها الصداع المزمن لو احتفظت بكل الذكريات المؤلمة، ولتحولت قلوبنا إلى حجارة قاسية لا تعرف الحب أبدًا، فهناك مواقف ننساها من أجل أن نحتفظ بأناس من حولنا لا غنى لنا عنهم، وننسى موقفًا ممن لم يبق له في قلوبنا حظ، ننسى جروحًا ممن غابوا عن مشهد علاقاتنا أو رحلوا.
أيًا كان رأيك، فإن هناك من العوامل ما هو كفيل وجدير بتخفيف وقع الصدمات أو نسيانها، فالروح كالفراشة المتنقلة من مكان إلى آخر، فإذا حطت على وردة حب وأنست بها، نسيت ألم الأشواك.
وذلك الغبار القادم من الماضي يتبعثر بعد هبات نسيم المستقبل، فمن انشغل بعمل جاد مثابر لا يمكنه الالتفات إلى ما يعرقل مسيرته مهما كان.
ولعله يظفر بدرس مهم من الزمن: اجعل أفعال الآخرين كاشفة عن حقيقة نواياهم لا أقوالهم، ومهما كانت كلفة الألم وأثره فهو درس يثريه بخبرة مستقبلية، ولكل شيء ثمن، ووعيه وحذره ونظره لعواقب الأمور وتقنين عواطفه عن الاسترسال الأعمى، ومضة أشرقت وانبثقت من جرح أنهكه زمن ما.