آه يا زمن…
في الماضي بتنا على أصوات نباح الكلاب و”العواوي”، ونهيق الحمير، ونقيق الضفادع، وخواء البقر، وصرير جندب الليل، وصياح الديكة، كل هذه السيمفونية لم تمنعنا من الخلود إلى النوم، بل كنا ننام بعمق .
ومن دون وجود مكيفات أو حواجز إسمنتية، غفونا سنين براحة بال، والأبواب مشرعة بنفوس مطمئنة، كنا نأنس لتلك الأصوات ونطرب، فهي جزء من ملامح بيئتنا الجميلة، ولم نكن نخشى الكلاب، أو نرتعب، بل جاورتنا مشيًا وظلًا، تحرس القطعان والماشية، نباحها يكسر الظلمة ويبدد الوحشة.
الآن وبعد أن تناقصت تلك الكائنات الأليفة التي كانت منتشرة بين الدروب والحقول، بقيت بضعة منها تائهة حائرة وسط مساحات التصحر، لا أمان لها بعد خفوت حفيف الشجر، واجتياح الرمل لموج البحر، أصبح النباح يكاد لا يسمع وإن سمع فهو يهجو الزمان وأهله. لماذا هذا العنت مع سبق الإصرار والترصد بفرق تحاصرهم للتخلص منهم، وبنحر آخر كلب والقضاء على أي أثر لوجودهم!
كلاب ضالة تنطلق لاهثة تبحث عن بقايا طعام، تجد ضالتها لتسكن الجوع، تبلع الطعم المتربص بها، تترنح لا تلوي على شيء، نباح متحشرج، متقطع الأنفاس، تهوي صريعة بالسم، فداءً لراحة البشر المرفه.
يا أيها القائمون على راحة الناس وعدم إزعاجهم حتى بنباح عابر، إذا بفعلكم الحضاري تخلصتم من بقايا كلاب ضالة، يا ترى كيف الخلاص من نباح كلاب الإنس الضالة، المحرضة على العنف والكراهية و إقصاء الآخر؟ ويا تاريخ الأولين لا تفتح لنا صفحاتك المعتمة لولائم السم، فرائحتها لم تزل تزكم أنفاسنا كلما قرأنا السير، مكائد سوء ترتعد منها الفرائص، حيكت بدعوات الكرم وغدر الليالي، طعنات الظهر صادرت الكلم، بدس السم في شراب الأقداح، مواكب الصولجان تهب نفسها امتلاك الأرض ومن عليها، وضاربوا الدف لم يرف لهم أي جفن، قرعوا الطبل بعظام آخر كلب الذي بالأمس كان حارسهم.
لا غرو فقد تخلوا عن من آنسهم ووقف معهم في السراء والضراء، لكن الكلب إذا أطعمته، لن يخذلك، وسيبقى وفيًا لآخر العمر.
يقول مارك توين: “خذ كلبًا ضالًا ضائعًا، وأطعمه فإنه لن يعض اليد التي أطعمته أبدًا، وهذا هو الفارق الكبير بين هذا الكلب الوفي وبين بعض الناس”!