على مقربة من أيامنا تتسارع خطى السنة الجديدة، قوافل من البشر تحط رحالها فتستريح قليلًا من وعثاء سنة كاملة، ثم تشد الرحال للمنزلة الجديدة، يتفقد بعضهم بعضًا، يدُ الحياة بُسطت لمن وقُبضت عمن؟ من فرشت له بساطها الأحمر ومن طوته تحت مطيتها؟ وحقائب الراحلين عنها من حملها من بعدهم؟ من ارتقى سُلم أحلامه ومن ذهب ليغفو حتى يراها في منامه؟، ثم يدونون الذكريات والإحصاءات وتحاصيل 365 يومًا فيجدون أن الحاضر شرٌّ من الماضي وتكثر مواقع الأطلال والواقفون عليها.
لي ولك هدية من الله في السنة الجديدة، عمرًا إن شاء، قيل لنا: سيروا في الأرض فانظروا، ولكن على ضفةٍ من العام المنصرم تقف جموع من البشر، يسيرون بلا وجهة وينظرون بلا نظر، شأنهم شأن من يسار بهم في ركبٍ وهم نيام، يحيون بلا حياة حقة يتبع بعضهم بعضًا خطىً بخطىً، يركض جميعهم ركضةً واحدة نحو سرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وأما العمر فيقفل دفاتره في كل عام ولا يجد قيمته، لكنه يمنح نفسه لنا من جديد علَّنا يومًا لو حصّلنا قيمته قيدناها بدفتر السنة الماضية تحت بند السعداء وكفى.
يسأل العبد نفسه؛ ما قيمة الدنيا إن كانت هينة تتلاقفها الآفات والنهايات المباغتة حتى يخلقني فيها بشرًا مكرمًا لكنه كادحًا ليله مع نهاره، لمَ هذه النعم الشهية وهي زائلة؟ ما هذا العمر الذي يتجدد في جسدي كل عام حتى أحياه وأقوم بما يستوجب وجودي رغبت أم لم أرغب؟! كيف لي العيش بغمرة من الشغف وحب للحياة؟!
قال لي ولدي يومًا ما: لماذا خلقني ربي في هذه الحياة؟ قلت له: حتى تعبده، فقال لي: أفلا أعبده لو خلقني في الجنة؟ قلت: بلى في كل مكان عش كيفما شاء لك الله في الجنة أو في الدنيا، فقيرًا أو غنيًا، معافى أو سقيمًا، المهم أن تعطي عمرك قيمته وإن لم يطاوعكَ زمنك فيما تشتهي، زمن متسارع بجنون، يسيرةٌ فيه الحاجات، سهلة به مرافق المعيشة وهذا ما أفقدنا قيمة العمر، نجرب كل الأشياء ونطرق كل الأبواب، نلاحق المعنى الذي لا يُرى ولا يُسمع ولا يُذاق لكنه قيم كقيمة الهدية من الله، وتحصيله هو من أصعب ما يكون في زمن قد يكون من أسهل ما مر على البشر، أنظر في الأرض وابحث عن قيمة نفسك أين تجدها؟ لم تكن قسمة الرب ضيزى حين أورث البشر هذه الأرض، لكن البشر وجدوا القيمة في المادة وأغفلوها عن المعنى.
يُحكى أن الخضر (عليه السلام) كان ابن ملك وكان الوارث الوحيد لملك أبيه، لكنه عزف عن الملك والدنيا واتخذ له منزلًا من الكهوف حتى التقى يومًا بذي القرنين، وكان ذو القرنين ملكًا أتاه الله ملكًا عظيمًا، وكان قد سمع يومًا عن عين الحياة وأن من وردها وشرب منها لا يفنى حتى يسأل الله الموت بنفسه، فأصبحت هذه العين غاية أمنياته، حتى لقي الخضر وانطلقا يبحثان عن عين الحياة اثنتي عشرة سنة، فأدركها الخضر وشرب منها واغتسل، ولم يدركها ذو القرنين، وعندما عاد الخضر كان قد أحضر معه حجرًا فأعطاه لذي القرنين، وكان الحجر إذا وضع على ميزان يرجح على الكفة الأخرى، وإن تجاوزت الكفة الأخرى ثقل الحجر بأضعاف مضاعفة، حتى جاء الخضر ونثر فوق الحجر بعض التراب وهوت كفته، فتعجب ذو القرنين فقال: ما بال هذا الحجر؟ فقال له الخضر: مثلك أعطاك الله من الملك ما أعطاك فلم ترض به حتى طلبت أمرًا لم يطلبه أبدًا من كان قبلك وكذلك ابن آدم لا يشبع حتى يحثى عليه التراب.
لم نشرب من عين الحياة لكن يمكننا الخلود إذا عشنا الحياة بقيمها الفاضلة، وهذا ضالة كل من ملك أملاك الدنيا ثم سئمها.