تختفي سنةٌ أخرى وتسقط قريبًا من ذاكرتنا، كم تستحق أمتنا الأملَ والراحةَ في مستقبلٍ أكثرَ ألقًا وإشراقًا وليسَ النومَ في ثيابِ الأمسِ والبارحة.. مستقبلٌ نخالفُ فيه الاسْتِقْرَاءَ وتتبعِ الجزئياتِ الذي ربما يوصلنا إِلى نتيجةٍ كُلِّيَّة، إن جدبَ السنينِ لم يزل يرافق قافلتنا، وعلينا أن نستحضرَ كُلَّ أدواتِ ومعاول بناءِ المستقبل في حقبةٍ من الزمنِ كلها عقبات كؤود يتطلب ركوبها الصبرَ والمشقة.. والأملُ في ذلكَ مثلَ أشجارٍ نزرعها نحنُ ويسقيها أبناؤنا ويأكل ثمرتها أحفادنا والخيبةُ يأكلها كُلُّ جيل.
تنسلُّ السنواتُ من بين أيدينا على وقعِ أنغامٍ سريع مثلَ انسلالِ الظِلِّ حين تأتيهِ الشمسُ ولا نشعر بها كأننا نغرفُ من معينِ السنينِ الذي لا ينضب.. الحقائقُ المرةُ أننا في مطلعِ كُلِّ سنةٍ استهلكنا جزءًا كبيرًا من نصيبنا من رقمِ العمر.. كان عمر النبي نوح (عليه السلام) أطولَ من أعمارِ ثلةٍ من البشرِ في حاضرنا ولم يشعر بتطايرِ أوراقهِ فكيف يكون إحساسنا؟ يذكر الأثرُ القصةَ التاليةَ وفيها من الحكمةِ ما ينفع:
“عن أبي عبدالله (ع) قال: عاشَ نوحٌ (ع) ألفي سنة وثلاثمائة سنة منها ثمانمائة وخمسون سنة قبل أن يبعثَ وألف سنةٍ إلا خمسينَ عامًا وهو في قومه يدعوهم وخمسمائة عامٍ بعد ما نزل من السفينةِ ونضب الماءُ فمصر الأمصارَ وأسكنَ ولده البلدانَ ثم إن ملك الموتِ جاءه وهو في الشمسِ فقال: السلام عليك فرد عليه نوح (ع) قال: ما جاءَ بك يا ملك الموت! قال جئتكَ لأقبضَ روحك.. قال: دعني أدخل من الشمسِ إلى الظل فقال له: نعم، فتحول ثم قال: يا ملك الموتِ كل ما مر بي من الدنيا مثل تحويلي من الشمسِ إلى الظل فامضِ لما أمرتَ به فقبضَ روحه (ع)”.
لو عاشَ النبيُ نوحٌ (ع) حياةً أخرى لم يغير طباعه في الصبرِ والمثابرةِ والعملِ وتحقيقِ الرسالةِ التي كلفه الرب، ونحن الكثير منا لو أعطينا عمرًا ثانيًا وثالثًا لربما استهلكنا السنينَ فيما لا ينفع.. تدق الحياةُ جرسًا لتنبهنَا من الغفلةِ كُلَّ يوم، نصحو وبعد قليلٍ نغفو حتى يدق جرسُ الأجراسِ ولم ننجز ما طُلِبَ منا.
التاجر الرابح يقلب دفاترَ وأوراقَ المحاسبةِ في أوقاتٍ منتظمةٍ، في هذه الأيام من كُلِّ سنة، وتاجر العمر يغفل عن النظرِ في الساعاتِ والأيام وتمر دونَ أن يكونَ فيها ربح.. لا يعلم ما تخفيهِ الأيامُ إلا الرب وفي كُلِّ الأحوال يجب أن تطلعَ علينا 1440 هجرية ونحن واقفونَ بانتظارها وسوف يقف اللهُ معنا.. بيدِ اللهِ وأيدينا نصنع المعجزاتِ ونخالف كُلَّ منطقٍ للاستقراءِ في العجزِ والخيبة.
رأينا الماضي ولم يعد يحتاج إلى خيالٍ في اكتشافِ الخيباتِ والألوانِ التي اصطبغت بها الأيام، لقد طالَ ليليَ حتى كأنَّ الصبحَ لم يبد مسفرًا.. علينا أن نوفرَ خيالنا وجهدنا وإبداعنا للمستقبلِ الذي نجهله ونعد له ألوانًا نصبغه بها غير الأسودِ والأحمر.
اقتصادنا يحتاج إلى خيالنا وتعليمنا يستدعي خيالنا وصحتنا تتوقف على خيالنا وليلُ ماضينا يحتاج فجرًا من الخيالِ والجرأةِ يهتك عنه السترَ ويضيء ما نستقبل من الزمن. علينا في مجازِ الأيامِ أن نشكَّ في الموتِ ونستيقنَ الحياة.. لمَ لا؟! نحن أمةٌ تستحق الحياة.. نحن أمةٌ رتلت أغاني الحزنَ أشجانًا، وآن لها أن تحلمَ وتحققَ أحلامها.