في رثاء أمي الغالية رحمها الله
وانا أقف على قبرك يا أمي، توقفت الكلمات وجفت الدموع، عندما شاهدت جثمانك الطاهر يضيء على فراش الموت، وبصمت على الأكتاف نعشك النقي يحملون، وبغير التكبير وكلمة التوحيد لا ينطقون، صرخت: إلى أين أنتم ذاهبون؟ رفقًا بها إنها أمي أيها المشيعون، أتدرون من على أكتافكم ترفعون ؟؟ إنها مملكة الرحمة وأميرة الحب والحنان.
أمي.. أرثيكِ أم أرثي نفسي (رحمكِ الله)، السلام عليكِ وعلى روحك الطاهرة التي توسدت التراب وسكنت نفسًا مطمئنة وأرجعت إلى ربها راضية مرضية. أمي، لم أجد وأنا يغشاني الألم ويعتصرني الحزن أبلغ وأطهر وأكرم من قوله تعالى:
(بسم الله الرحمن الرحيم )
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ [لقمان: 14] ترفقًا بكِ وإحسانًا إليكِ.
نعم يا أمي، سنوات مرت هي الدهر يا أمي، كئيبةً وثقيلة، حزينةً ومريرة، فمنذ أن فاضت روحك الطاهرة لبارئها وأنا ألملم جراحي في هذه الدنيا الفانية، وأنسج من ذكراكِ إشراقة نور، وألتمس من حولي لمساتك الحانية، وأصبحتُ يا أمي أحسدُ وأغبطُ كل من له أم تحضنه وتدعو له، وتمسح عنه ما علق به من هموم الدنيا ومنغصات الحياة بيديها الطاهرتين، وتشرفه بفسحة من مكان تحت موطئ قدميها الكريمتين فهو حتمًا أسعدُ مني، وهو حتمًا أهنأُ مني، ويحصدُ الثواب أكثر مني.
وألوم نفسي على كل لحظة أشغلت نفسي فيها عنك وأفنيتها دون تقبيل قدميك ومحياك، فكم أنا حزين على نفسي بعدك يا أمي، وكم أنا مشتاق إليكِ، وكم تراني سأعيش لأنسى ما وهبك الرحمن عطفا عليَ وحنانًا وسكنًا كنت أجده حتى في ناظريكِ.
وهل تراني سأنسى شقاوتي وأنا بالمهد طفلًا كنت قد مارستها عليكِ، وهل تراني سأنسى تلك النظرة الوادعة المستبشرة، والموت يخطفك رويدًا رويدًا حتى أسلمت له تلك الروح المطمئنة.
أمي… تعجز الحروف حين تعرف أن مصيرها سيكون الكتابة عنكِ يا رمز التضحية والوفاء، يا رمز الحياة، ويقف في عقلي التفكير في الكلمات التي أريدها للكتابة عنكِ يا أمي، فتتشابك الكلمات من كثرتها لتأبى في النهاية أن تخرج مرتبة فتخرج عفوية، فيكِ يا أمي كتبت كثيرًا، ملأت الدفاتر والصفحات البيضاء والملفات!
أمي… قلمي جماد لا يشعر، وهل حقًا المتحدث وهو المتحدث بين أصابعي جماد أخرس لا ينطق؟ أظن أنها معادلة صعبة، قلم جماد، وإحساس مُتدفق نحوكِ يدفع يدي للارتعاش.
يا إلهي، أي صغير في الأرض يجد كفايته من الروح إلا في الأم؟ وأي رجل ولو كان ملكًا تهدأ نفسه إلا بين يدي أمه، لو قيس كل نعيم الدنيا بفقد الأم ما ساوى شيئًا، رحلت أمي، حقيقة يدركها عقلي، وتنكرها نفسي وروحي حتى ألقاها، راح الكائن الذي كنت أملك فيه حق الرحمة، وما عاد لي حق في أحد.
رحلت أمي وكان رحيلها أشبه بالصدمة والمفاجأة رغم ما كانت تعانيه من ويلات المرض الذي أنهك جسمها وشتت قواها وأضعف عزمها.
رحلت أمي، وتركت لي الحياة ليلة عزاء طويلة، فلم تعد النجوم على الأرض إلا مصابيح مأتم أقيم بليل، ولم يعد للحياة معنى إلا أن تكون القبر، ولم يعد للقبر معنى إلا أن يكون الحياة، لو كنت أملك من عمري شيئًا لأعطيت أمي ما يجعلني لا أفارقها ساعة، هي ابتسامة الزمن وهي الحي، العطاء، الوفاء، الإيمان، والقلب الحنون.
رحلت أمي، فلم يعد بعدها قلب يضخ الحب والعفو بلا حساب، ولا صدر يحتوي وينثر عطر الأمن والأمان بلا مقابل، ولا وجه يُعرف بإشراق من نور الله، هي المعنى الذي صنعه الله من رحمة خالصة ومن حب خالص ومن غفران خالص لا يغيره كدر، ولا يبدله عقوق، إذا ماتت الأم مات المكان.
عفوًا يا أمي، فلا أستطيع الكتابة أكثر، ولكني مدرك أنكِ تعلمين أن ما في قلبي من حب لك يفوق كل الكلام الذي أكتبه، حتى لو استعنت بكل بقواميس اللغات في العالم، فلن أوفيكِ حقك.
ونحن في هذا اليوم المبارك يوم الجمعة، فلا أملك بذكرى رحيلك أيتها الطيبة الحنونة إلا أن أقف إجلالًا أمام مقامك تحت الثرى، وأقول: رحمكِ الله يا من كنت الرمز للحياة، وأدعو الله أن يحشركِ مع محمد المصطفى وآله الطاهرين، ويجمعنا بكِ في جنات الخلد، وينزل على قبرك ضياء الرحمة والنور.
إلى روحك الطاهرة نقرأ جميعًا ثواب الفاتحة، اللهم ارحم أمّي وأبي وجميع المؤمنين والمؤمنات، واغفر لهم، واجمعنا مع والدينا في جنات الفردوس الأعلى يا أرحم الراحمين.