جاءَ شتاءُ 1980م في مدينة تولسا وأنا طالبٌ في معهدِ اللغةِ الإنجليزية قبل دخولِ الجامعة، كان الجو باردًا والثلوجُ تتساقط. اقترب عيدُ الميلادِ والأصدقاءُ عادوا لبلادهم مثل الطيورِ المهاجرةِ باحثينَ عن الدفء، وحدةٌ قاسيةٌ أن تكونَ بعيدًا عن وطنكَ ولو كانت أحلامكَ في أرضٍ أخرى. بقيَ لي صديقٌ واحدٌ زرته ذاتَ مساءٍ وتبادلنا الحديثَ قبل سفري اليومَ التالي إلى صديقينِ في المدينةِ التي لا تهدأ فيها الرياحُ ولا تتوقف “مدينة شيكاغو” في ولاية إلينوي جهةَ الشرقِ من الولايات المتحدة الأمريكيّة.
وصلتُ مدينةَ شيكاغو وكان الجو أكثرَ برودةً من المكانِ الذي جئتُ منه، الرياحُ تهب والثلجُ كسا الأرضَ والأشجارَ بِساطًا أبيض والناسُ والمتاجرُ وضعوا زينةَ الأعيادِ في إجازةِ الميلادِ ورأسِ السنة 1981م. لم يمنع البردُ وصعوبة قيادةِ السيارة ثلاثةَ شبانٍ من التسكعِ والخروجِ في الشوارع. كنا صغارًا نرى الجمالَ في كُلِّ شيء. ليس سحرُ المناظرِ ولكن سحرُ الشبابِ هو ما يدفعنا البشرَ لنرى الجمالَ في الكآبةِ والأملَ عندما يحاول الألمُ نحر كُلِّ فرح.
أخذتنا أرواحنا نحو شاطئِ البحيرةِ العظمى”بحيرة ميشيغن” وهي إحدى البحيراتِ الكبيرة في أمريكا. كانت أطرافها بيضاءَ ناصعةَ البياضِ جامدةً لا حراكَ فيها وكأنها تدعوكَ أن تدوسها. مشينا على أطرافها ونفسي تحدثني أن أمشي على الماءِ المتجمد؛ فعلٌ لم يقدر عليه سوى الأنبياءُ الذين ساروا على اليابسةِ والمياه عن يمينهم وشمالهم. دافعتُ نفسي ولكنْ في كُلِّ الخطايا التي لم أمتنع عنها قفزتُ فوقَ الماءِ المتجمد. لم يتحمل ثقلي وسقطتُ تحت الثلج. برودةٌ كادت أن توقفَ قلبي الصغير ولم أستطع السباحةَ في الماءِ الجامد الذي صار كالقبر. جاءت الحكمةُ أحدَ الصديقين، انبطح أرضاً ومَدَّ يديهِ ومددتُ يدي وسحبني الصديقانِ نحو الجسر.
يخاف الهَرِمُ من الموتِ مرارًا ولا يخاف الصغيرُ من الموتِ مرةً واحدة. سخرت من نفسي وذهبنا لمتجرٍ قريبٍ اشتريت منه ملابسَ جديدةً ارتديتهَا في الحالِ وقطعنا التجوالَ وعدنا نحو الشقة. لذةُ وجبةِ المعكرونةِ بعد النجاةِ والإحساس بالدفءِ أشبهَ بحلاوةِ آخرِ وجبةٍ يأكلها المحكومُ عليه بالإعدام. كان من المقرر بقائي أيامًا معهم لكن لشدةِ حرجي عدتُ إلى مدينة تولسا في اليوم التالي.
مَرَّ ماءٌ كثيرٌ من تحتِ جسرِ تلك الذكريات. كبرنا وتركنا الوظيفةَ أنا وأصدقائي وكلما التقيتُ أحدهما أغْمِضُ عيني وأدعو اللهَ أن يكونَ نسي تلك الحادثة. ذكرياتٌ لم يبق منها إلا القراطيس التي كُتِبَتْ فيها وحكمةُ الربِّ في إعطائنَا البقاء ونرويها. يهلكُ في عالمنا العربي آلافٌ من الشبابِ ليس في تحقيقِ آمالهم وبناء مستقبلهم ولكن في العبثِ واللا شيء. يبقى الأمسُ حلم البشرِ الذي لا يعود، اكتبو أمسكم ويومكم بالقلمِ والصوتِ والصورة. كم تمنى أبناءُ جيلي أن يكونَ لهم ما عندكم.
يكبر أحفادكم ويقرأونَ ذكرياتكم ويقولون:َ لم يكن جدنا حمامةً وادعةً كما هو الآن ولكنَّ ذكرياته كانت جميلةً مثل الوردةِ البيضاء. له الشكر لو دام لنا!