درجت منذ تشكلت لدي بعض المواهب والحمد لله على أن ألفت إليها أو بعضها أبنائي، وكذلك بعض أقاربي وأصدقائي دون إجبار، لكي يأخذوا منها ما يستحسنون، أو يتخذوا لهم هوايات أخرى، وقد نجحت نوعًا ما بذلك، والسبب لرغبتي هذه بسيط جدًا، والإجابة عليه تحتاج لتفصيل نبسطه هنا قدر المستطاع.
ينعم الله (عز وجل) على البعض بالملكات والمواهب المختلفة التي يمكن أن تتحول إلى مهنة أو هواية بجانب عمله الأساسي، أو يمتهنها ليكون محترفًا فيها مبدعًا مستفيدًا، كونها مصدر رزق أولي أو إضافي.
والحقيقة أن غالبية البشر لا يلتفتون لهذه المواهب، فلا ينمونها ويطورونها إن وجدت من الأساس، ويعتبرونها إهدارًا للوقت والمال والجهد الذي يجب أن ينصب كل ذلك على أمور أخرى أكثر أهمية في الحياة.
ونحن هنا لا نخصص مواهب بعينها، أو نقتصر على الموهوبين دون غيرهم من الذين لا يملكون مواهب حرفية مثلًا، ونغفل المواهب والملكات الأخرى، أو أولئك الذين يستغلون وقت الفراع للتعلم واكتساب الهوايات والمواهب بالتدريب تدريجيًا، خاصة تلك التي يميلون إليها كلٌ حسب رغبته.
ما نريد أن نتطرق إليه هو أن العمل الرسمي أمرٌ، سواء كانت وظيفة رسمية أو أعمال حرة، والهوايات الناتجة عن ملكات أو هوايات أو مواهب مكتسبة أمرٌ آخر، ولكنها تلتقي بالتناغم والتلازم، حيث إن لكـل منها وقـتها وأهميتها وإن كانت مختلفة الأهمية والنسبية، بين وقتين وأهميتين مختلفتين، فالوظيفة الرسمية على اختلافها هي الأساس في بداية مراحل العمر، وإن زاحمتها الموهبة، وربما تكون سنخٌ منها، ولكن المسألة تبدو جلية عند التقاعد أو حين يتوسع الاهتمام بالموهبة حيث سينصب الاهتمام بها اهتمامًا كليًا، وربما يكون ذلك على حساب الوظيفة، إن لم يحن وقت التقاعد من الأساس.
ولكن أين تقع المشكلة؛ نحن نلاحظ أن أكثرنا وكما قدمنا لا يمتلك المواهب، وإن امتلك أو تدرب على إحداها، فإن الغالبية لا ينمونها، وبالتالي هي تضعف لدى الإنسان إلى أن تتلاشى، فلا يستطيع العودة لها وممارستها، ويعجز في نهاية المطاف أن يملأ فراغه بعد التقاعد مثلًا، أو تركه لعمله الخاص ومهنته، ليجد نفسه بلا شاغل يشغله، سواء بافتقاره لممارسة هواية فردية، أو بعدم الانخراط في عمل اجتماعي يخدم فيه بلده هذا إن كان صاحب قريحة لذلك، أو ممارسة أي نشاط فاعل آخر يشعر الإنسان بأنه لا يزال حيًا، وقلبه ينبط، خاصة أن الكثير قد تقاعدوا باكرين، في سُنَّةٍ وعادةٍ غير حسنةٍ أبداً. ولننظر للأجانب كيف أنهم ينتقلون من حياة إلى أخرى على مدى سنوات العمر الذي يقضونه، فلا يملون حتى وهم طاعنون في السن، بل إن السنين المتقدمة هي أفضل مراحل العمر بالنسبة لهم، وذلك بسبب التفرغ الذي يعيشونه، ويستطيعون فيه ممارسة ما حرموا منه طوال سنواتهم العملية، ولا نقول إنهم أفضل منا، ولكنهم كذلك في هذا الجانب الذي نتناوله.
ونحن هنا للأسف لا يوجد لدينا مؤسسات فعلية تحتضن المواهب بشكل جدي عدا بعض الاجتهادات التي تقوم بها جماعات بشكل مؤقت، أو معاهد تدريب ربما غرضها الربح وليس الاهتمام الدائم بالموهوبين؛ لأن هذا الأمر يفترض أن يكون على عاتق جهة رسمية، بحيث تكون هي الجهة أو الجهات الحاضنة للموهوبين وتنميتهم وتطويرهم، حتى يمكنهم التخصص والاحتراف والإبداع في مواهبهم، ليستفيد منهم سوق العمل والوطن لاحقًا؛ كل في مجاله.
ولهذا فلا غرابة أن ترى البعض يدورون في حلقة فراغ، يبحثون عن معنى لوقتهم، وهوية لحياتهم، وانتساب لأحد، أي أحد هروبًا من الروتين الممل والقاتل الذي يعيشونه مع الفراغ.. ولربما يتخذ أحدهم من أتفه الوسائل ملجأً يلجأ إليه ويعتبره حلًا للمشكلة؛ مثل السفر المتكرر بلا فائدة مرجوة، أو تبذير المال في غير ما يحسن، ومثل أن يرشده أحد إلى مجال العمل الخاص وهو لا يحسن شيئًا منه، فيسقط الكثير في شراك الفشل والخسارة، والأمثلة كثيرة على تبذير الوقت والجهد والمال، بل وحتى الصورة المتزنة للشخص نفسه حين يتوه عنها في أتون اللا شيء، وهي في الحقيقة مشكلة قائمة، فلا هو امتلك ما يشبع به نفسه ويرضيها من المواهب التي حان ممارستها بعد التفرغ التام، ولا هو بحث بين أروقة الوقت والفراغ عن وسيلة قويمة يستطيع أن يرسم بها لنفسه صورة واضحة تسبغ عليه ماهيةً وضاءة يحتاجها بعد ماهية الإنسان الموظف والمرتهن للوظيفة التي أنعتق منها، ليتوه في معضلة أكبر، وهي الفراغ التام، والتسكع بين أزقة المكان والزمان بحثًا عن لا شيء من لا شيء، والمحظوظ من يلتفت لنفسه إن كان مقصراً تجاه ربه أو أراد التفرغ والزيادة في أن يقصد دور العبادة، والاتجاه للعمل لآخرته، مخلصًا بعمله، راجيًا حسن الختام، وألا يفتنه الله (عز وجل) بغير طاعته أبدًا ما بقي.