كائنات الحميدي الحية

يعرض الفنان التشكيلي توفيق الحميدي في رحاب منتدى الثلاثاء بعضاً من تجربته الفنية التي طرحها مؤخراً والتي تحمل عنوان “أنا إنسان”، والتي قدمها على صالة جمعية الثقافة والفنون بالأحساء، تجربة مميزة يعرضها مجدداً بالتزامن مع محاضرة هذا المساء حول اليوم العالمي لحقوق الإنسان.

طوال أربع سنوات ريشته لم تهدأ انغماساً في دم المعاناة، مثقلة باستغاثات المتعبين، وآهات الموجوعين، وزفرات المهمشين، وشهقات المقموعين، ريشة أسمعتنا أصوات الكبت وأنين الصمت، لكائنات حية تصارع وجودها الآدمي، المبعثر في أزمنة الخراب، تلملم كينونتها المتشظية في دروب الخوف والتشرد والضياع، كائنات تجاهد نفسها لاسترجاع شخصيتها المستلبة، وتضمد جراحات ذاكرتها المستنزفة.

ريشة الحميدي تتقصى آثار الأنفس الظامئة للحياة، التائهة قسراً باغتراب المنافي، ريشة تتحول كمبضع جراح تشرح الأنسجة والأوردة والشرايين، لترينا ما لا يرى، من بواطن البوح، لدواخل مخفية عن الناظرين، لتقول همساً لكل منا ألمه، ووجعه، وانكساراته، وإخفاقاته، وأمانيه المقبورة، وتطلعاته المرتقبة في مجاهيل الغيب.

ريشة تتقلب بين لوحة وأخرى لتشكل مخلوقات منسلخة الجلد، نافرة الأوداج والعروق، متدلية على أعضائها المنهكة، بحد سكين اللون، تجرجرها كيانها إلى تخوم ملح الأرض، لتبرأ من عللها، وتدعكها طيناً من لهيب الشفق والغسق ومن نفحات دلوك الشمس، لترمم ذاكرة الجسد المفجوع في ذاته، لتستنهض كينونته المستحمة اصطباغاً بالأحمر من نزفه القاني.

ثمة لوحات تحمل كتلاً آدمية بلا ملامح، متورمة ومتقيحة بعضها سابح في الفضاء والأخرى ملقاة أرضاً، مصطليات احتراقاً بعبث همجية وحوش العصر، المرتدين لبدائيتهم الأولى.

كائنات مخضبة بالألوان الحارة نبذت الألوان الباردة، واتخذت من الأبيض المغبر والرماديات أرضها وفضاءها، ويتخللها الأسود بحدية طاغية، ويحفر الأحمر المسود نسيجها، نقش منمنم يفرز أخاديد ودمامل وتقرحات وانتفاخات تبرق منها عيون جاحظة، ونتوءات وثغرات غائرة، تكسب سطحها خشونة لحم متفسخ، تتجسد بين نقيضين وضوح  الشكل وغموض كتلته  المتقلبة بأوضاع شتى، منحنية، ملتوية، ممدة، منتصبة، منكفئة، متشابكة، تخطف الرؤية تأملاً وتساؤلاً، وتخادع العين بين جلدها والملابس أهي كاسية أم عارية، لحم يئن بين الليونة الطرية والقساوة المتصلبة، تستدرج اليد عنوة لملامستها لطفاً، لتكفكف دمع أحزانها البادية بوحاً والمستترة علناً.

كائنات آدمية تكاد أن تكون تماثيل نحتية مبالغ في هيكليتها لدواعٍ تكوينية تخص نظرة ريشة مبدعها، تبدو للوهلة الأولى متسمرة، لكنها حية دافقة متدرجة حمرة بحمرة، ومتقاربة اشتغالاً بانفعال موحد وتوتر مبطن،  يتماهى جنسها في كنف سرياليتها الملتحم جسداً،  لتغتسل من دمعها ودمها، وتبحث عن زمنها المفقود والمؤجل بين خفايا الذاكرة المنهكة.

كائنات تتجدد وتتعافى كطائر الفينيق، تهب حياتها حياة، تتعالى على الجراح، بأمل لا يزال يسري بشرايينها المتجددة ووجدانها المتسامح و قلبها النابض حباً بحب، اصطبغت بلون واحد قصداً، فالدم الإنساني واحد في كل زمان ومكان، كائنات توفيق الحميدي تتجاوز الأجناس والأعراق والألوان، رافعة الصوت في الأصداء والآفاق.. أنا إنسان.. أنا إنسان.


error: المحتوي محمي