قلب القطيف النابض

جرت العادة في قديح الشهداء أن يكون غسل الطهارة والعلم في عاشوراء هو مأتم الشيخ عبد الحميد المرهون، بحيث يعتقد الكثير منا أن المجالس الحسينية لا تبدأ إلا بمأتم الشيخ المرهون حفظه الله، وكأنه سورة الحمد في القرآن الكريم.

إن الحديث عن دور الشيخ المرهون في غرس الثقافة الحسينية في القديح أشبه بدور ساقي العطاشى.

القديح مدينة الطهارة، والطيبة، والولاء بكل معانيه، أرض خصبة للعمل الصالح.

قام الشيخ المرهون بغرس بذور الملحمة الحسينية في قلوب آبائها، وأمهاتها بمختلف أعمارهم جيلًا بعد جيل، (لأكثر من ستين عامًا)، واعتنى بالفطرة النقية فيهم، ثم سقى البذور حتى أخرجت البراعم يانعة، ثم ظلل عليها وحماها وسقاها من نهر العلقمي بما يروي أرواحها وأجسامها حتى غدت كربلاء الصغرى حديثًا.

القديح بكل مكوناتها من بشر، وحجر، ومدر، ورمل، وماء، وشجر تدين له بالفضل وتعترف له بالجميل، وتقف بين يديه وقفة التلميذ بين يدي الأستاذ.

كل الطبقات الاجتماعية – دون استثناء – مدينون له بالفضل والعرفان، طلاب العلوم الدينية، والمثقفون، والكتاب، والشعراء، والأطباء، والمهندسون، والمعلمون، والكسبة، والأميون يتعلمون من منبره، وينهلون من معينه، ويتلقون العشق الحسيني كتلقي الأرض العطشى لغيث السماء.

إن العشق الحسيني الذي غمر قلب الشيخ المرهون سقى كل ذرة من ذرات جسده؛ فأصبحت كل أعضائه دون استثناء تنادي يا حسين.

كل نبضة في قلبه حملت عشقًا حسينيًا مقدسًا وبلا حدود، ينثر لا إراديًا على كل من جاوره، وكل يأخذ منها ما يحتمل.

من الذين تربوا على هداه وخطاه الكثير من الشباب الواعي الذين ينتظرهم مستقبل حسيني مشرق بالعطاء.

الشيخ المرهون مدرسة مستقلة مزجت بين العِبرة والعَبرة، وأعطت للجانبين ما يستحقان من عناية؛ فجذب الجميع.

إن الخطابة الحسينية رسالة الموفقين من الناس، لأنها السفينة الأقرب للجنة، غير أن الشيخ المرهون تجاوز السفينة حين جعل بوصلته الحسين أولًا وثانيًا وثالثًا وعاشرًا وأخيرًا.

صحيح {إن للمتقين مفازا. حدائق وأعنابا. وكواعب أترابا. وكأسا دهاقا. لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا. جزاء من ربك عطاء حسابا}، غير أنها وإن كانت نعمًا عظمى فهي ليست سوى قطرة من بحر مقام الحسين.

لذلك رضع الشيخ حب الحسين طفلًا، وشربه شابًا، وارتوى به كهلًا وذاب فيه شيخًا، وكيف لا يكون كذلك ووالداه هم صفوة الصفوة ومنهلا الحب.

لو كان في عصرنا عابس الشاكري لكان بلا شك الشيخ المرهون، وكيف لا يكون عابسًا وقد دوى صوت زينب صبيحة كربلاء في أذنه؟! وكيف لا يكون عابسًا وقد سقط العباس على قلبه حينما هوى من على فرسه؟! وكيف لا يكون عابسًا وقد شارك الحسين في جمع أوصال ابنه الأكبر؟! وكيف لا يكون عابسًا وقد شد مع القاسم حذاءه لولا القدر المحتوم؟! وكيف لا يكون عابسًا وقد وضع سجادة الصلاة لزين العابدين عليه السلام يوم عاشوراء؟! وكيف لا يكون عابسًا وقد فرش نفسه أرضًا حتى لا تسقط قطرة من دم عبد الله الرضيع؟! وكيف لا يكون عابسًا وقد شارك القائم المنتظر الألم والحسرة فتلوى معه؟! وكيف لا يكون عابسًا وقد حضرت فاطمة الزهراء مجالسه نادبة باكية؟!

من اليسير جدًا على الموهوبين والأذكياء أن يكونوا علماء حقًا، ولكن ليس من السهولة بمكان أن يكونوا أتقياء حقًا بكل أبعاد وتجليات الكلمة.

نثر الشيخ التقوى على الأرض كما نثرت السماء الغيث عليها، غير أن غيث الشيخ الحسيني له صفات خاصة، لأنه يغذي الأرواح قبل الأجسام، ويسقي الغيب، ويمتد لعالم البرزخ، فيروي كل عشاق الحسين هناك.

لو كان للحسين سفراء لكان الشيخ المرهون في ركب القافلة، وكيف لا يكون وقد صبت عليه الزهراء بعض دعائها، وظلله الأمير بالكساء اليماني.

عقيدتنا أن آل محمد أكرم الناس، وأشرف الناس، وأكمل الناس وأجمل الناس وأعلم الناس، لذلك بلغنا عين اليقين بأنهم لا يتركون خدامهم أبدًا، فكيف إذًا كانت الخدمة خالصة طاهرة من كل شيء سوى آل محمد؟! كما هي عقيدة شيخنا العظيم.

سيّان عنده أن يقرأ في مأتم مساحته عشرون مترًا مربعًا، أو في مأتم مساحته خمسة آلاف، كما لا يعنيه عدد الحاضرين ولا ثقافاتهم، فضلًا عن المبالغ التي يتقاضاها للقراءة، يكفيه أنه يتمثل حضور قائم آل محمد في مجالسه فيؤدي رسالته تجاهه بكل ما يستطيع.

ذكرنا أن مجالسه طهورا للأرواح قبل الأجساد لذلك كنّا نقصدها ونعود بروحانية يصعب وصفها بالكلمات، ومازلنا نتطهر بمناهله العذبة.

إن الدموع تجري من المستمعين تحت منبره لا إراديًا، وكأن كربلاء تجسدت أمامهم وقد انكشف عالم الملكوت.

يعيش الحرقة، والحسرة، والألم في مصاب آل محمد فيكون التأثير بالغًا عليه، ثم ينتقل تلقائيًا على من حوله.

ملم بالتاريخ بشكل قل نظيره، وعالم بسيرة المعصومين والأنبياء، ومفسر عميق للقرآن، فضلًا عن ثقافته الموسوعية العالية، وإلمامه بقضايا المجتمع وأولوياته.

قراءاته التي لا تقدر بثمن جعلت منه صرحًا من صروح المعرفة، وكأنه كتاب مفتوح أمام الناس يستطيع قراءته كل أحد دون استثناء.

أسلوبه السهل الممتنع جعل كل فئات المجتمع تنهل من معينه وكل بحسب دلوه.

كان سلطان الفقهاء السيد الخوئي (قدس سره) لا يستطيع المشي أو الوقوف في أواخر حياته، غير أنه في الصلاة يبدو سليمًا معافى، وكذلك الشيخ المرهون يبدو عليه التعب والمرض أحيانًا، غير أنه حين يصعد المنبر ينسى ألمه ويصبح فارسًا لا يشق له غبار.

لم يقتصر دور الشيخ المرهون العظيم على قريته أو ما جاورها فحسب، بل امتد إلى القطيف بقراها كاملة.

هذا الصرح العظيم والكنز الثمين حمل أخلاقًا لا تتمثل إلا في المصطفين الأبرار. تواضع أحرج التواضع، وجود، وطهارة، وحسن أخلاق، وذوق عال، وحكمة بالغة، وهدوء وسكينة.

كل كلمات الثناء وإن علت تبقى خجولة أمامه. إن مشاعر الحب التي حملتها الأجيال تجاهك هي مشاعر الحب التي حملتها تجاه صفوة أحبتك وأرحامك.

إن الشيخ المرهون من أنصار الحسين المدخرين لزماننا هذا، ودوره الرسالي يحكي الحقيقة المذكورة بكنهها المغيّب.

لك شكر من كل رملة في ربى القطيف، لك شكر من كل فرد فيها حيًّا أو ميتًا، لك شكر يمتد بامتداد السماء للأرض، تحمله إليك كفا أبي الفضل العباس عليه السلام.

وعليه؛ لست مبالغًا حين أقول: لو كان للقطيف قلب لكان الشيخ عبد الحميد المرهون.


error: المحتوي محمي