ثلاثة عناصر يقول أهل الخبرة إن من ملكها فهو “الخطيب”؛ الحفظ والحس والحظ، فهل فعلًا هذا وحده ما جعل من المرحوم الشيخ أحمد الوائلي (١٩٢٨ – ٢٠٠٣م) خطيبًا حفر اسمه في ذاكرة الكبير والصغير؟.
كان الشيخ حافظًا فلا تكاد تسمع إحدى محاضراته وتراها خاليةً من القرآن والحديث والتاريخ والأدب غير المتداول والحوادث التي لابد لك للرجوع للمصدر لغرابتها وفعلًا تجدها كما قال وقد يكون النقل حرفيًا. أما حظ الشيخ في القراءة فلم يكن ناقصًا، فهو الذي ملك القلوب وأحبه الناس وجال في عواصمَ كثيرة، عربية وغير عربية خطيبًا وأديبًا وشيخًا، وها هو اليوم لا يزال ساكنًا في قلوب وعقول الملايين. لم ينافس الشيخ الكثير من الحناجر لكنه استعاض عن عذوبة صوته وتموجه برخامته ودفئه وشجاوته وحفظه أدب الرثاء الفخم من القديم والحديث.
كل هذا لم يكن السر الأوحد في ديمومة الوائلي على عرش الخطابة عشرات السنين بعد موته وحتى يأتي من هو أفضل منه. بل أكبر سر في ديمومته هو فكره النير وتعليمه الحديث فهو جمع بين الدراسة الحديثة حاصلًا على درجة الدكتوراه من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ودراسة العلوم الحوزوية التقليدية في أصول الفقه والفقه المقارن والفلسفة والمنطق وغيرها.
أضاف هذا الشيخ – الوائلي – الفكرَ وسعةَ الاطلاع والسلاسة في السرد لمعادلة الخطابة التقليدية وقدَّم أنموذجًا متكاملًا لمن بعده من الطامحين لصعود أعواد المنابر، فمن يملك الصوت وحده ليس بمقدوره أن يملكَ العقولَ والقلوب معًا، والحظ تابعٌ لا متبوع. وعلى هذا أنشأ مدرسةً خطابية جديدة مختلفة عن سابقاتها تجمع بين البحث العلمي وقضايا المجتمع والناس والخطابة المؤثرة والأدب الراقي فاستقطب إليه شريحةً واسعةً من المستمعين والمحبين جيلًا بعد جيل.
لا عجب إذًا إن كان هذا الشيخ بمثابة القائد والرائد الذي تبعه الكثير من الخطباء الناجحين ومشوا فوق آثار خطاه واستفادوا من أسلوبه ومادته وهي الآن مدونة في المكاتب في مجلداتٍ أنيقة سهر وتعب في إخراجها وتشرف بتوثيقها رجلٌ وجيهٌ من بلادنا هو سماحة الشيخ مصطفى نجل الشيخ عبد الحميد المرهون، ناقلًًا إياها من أدوات وتقنيات الصوت القديمة التي أصبحت من الماضي إلى الكلمة المكتوبة التي لا يعتريها القِدم والتلف، فهو عملٌ يستحق من أجله الثناءَ والشكر والعون وخالصَ الدعاء بالرحمات.